26 يونيو 2015
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬409 مشاهدة

الصحابيّ الجليل أبو طالب وأمُّ المؤمنين خديجة، دروسٌ خالدة

(الجمعة 26 / 6 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

عظَّم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى رحيل الصحابيّ الجليل أبي طالب الهاشميّ، الذي كان لرسول الله(ص) خير حامٍ وكفيل.  

عظَّم الله أجورنا وأجوركم في ذكرى وفاة أمّ المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسديّة، زوجة النبيّ(ص) الأولى.

أيُدافع عن دينٍ هو كافرٌ به؟!

إنّه عمّ النبيّ(ص) أبو طالب الهاشميّ، إنّه المحامي والكفيل.

ويتَّهمونه حَسَداً وحقداً، وزوراً وبهتاناً، أنّه مات كافراً، وأنّه يوم القيامة في ضحضاحٍ من نار.

وتناسَوْا أنّ أبا طالب كان في بداية الدعوة الحامي الوحيد لرسول الله(ص)، يمنع عنه كلّ أذىً، ويقف بقوّة وشراسة في وجه كلِّ الذين يتربَّصون به سوءاً، فهل كان يدافع عن دينٍ لا يعتقد به، ولا يؤمن بشرعيّته وحقّانيّته؟!

أليس هو الذي افتقد النبيّ(ص) يوماً، فخاف أن تكون قريش قد تعرَّضت له بسوء، فجمع بني هاشم، وقلّدهم السيوف والقضبان، حتّى أحاطوا بأشراف مكّة وزعمائها، وهم حول الكعبة، حتّى إذا لم يأتِ رسول الله(ص) يضرب أعناقَهم جميعاً؟!

أليس بينما النبيّ(ص) في المسجد الحرام، وعليه ثيابٌ له جُدَدٌ، إذ ألقى المشركون عليه سلا ناقةٍ، فملأوا ثيابه بها، فدخله من ذلك ما شاء الله [غمّاً وحزناً]، فذهب إلى أبي طالب، فقال له: يا عمّ، كيف ترى حَسبي فيكم؟ فقال له: وما ذا يا ابنَ أخي؟ فأخبره الخبر، فدعا أبو طالب حمزةَ، وأخذ السيف، وقال لحمزة: خُذْ السلا، ثمّ توجَّه إلى القوم، والنبيُّ معه، فأتى قريشاً وهم حول الكعبة، فلمّا رأَوْه عرفوا الشرَّ في وجهه، ثم قال لحمزة: أَمِرَّ السلا على سِبالِهم، ففعل ذلك، حتّى أتى على آخرهم، ثمّ التفت أبو طالب إلى النبيّ(ص)، فقال: يا ابن أخي، هذا حسبُك فينا؟!

أليس هو الذي اشتكَتْ إليه قريشٌ ما فعله النبيّ(ص) بها وبآلهتها، قائلةً: ماذا يريد ابن أخيك؟! إنْ أراد مُلْكاً ملّكناه، وإنْ أراد مالاً أغنيناه، وإنْ أراد زَوْجاً فليختَرْ مَنْ يشاء من النساء، ولكنْ ليدَعْ ذكر آلهتنا بسوءٍ، فذهب أبو طالب إلى النبيّ(ص) يخبره بعرضِ قريش، فقال(ص): «واللهِ يا عمّ، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر، ما فعلتُ حتّى يُظهره الله أو أهلك دونه»؟!

ولمّا اشتدَّتْ لهجة قريش وقويَتْ خاف أبو طالب على رسول الله(ص) من أن تَصِلَ إليه يد الأذى من قريشٍ وأحلافها فقال له: لا تكلِّفني ما لا أطيق (فإنّ لقدرتي على حمايتك حدود)، وقام رسولُ الله(ص) من مجلسه منكسرَ الفؤاد، فعزَّ ذلك على أبي طالب، واستدعاه إليه، وقرَّبه من مجلسه، وقال: اذهب يا ابن أخي، فقُلْ ما شئتَ، فواللهِ لا أُسلِمُك إليهم أبداً، ثمّ أنشأ يقول:

واللهِ لن يصلوا إليك بجمعهم

حتّى أُوسَّد في التراب دفينا

ولقد علمتُ بأنّ دين محمدٍ

من خير أديان البريّة دينا

نعم، قرَّر أبو طالب الدفاع عن رسول الله حتّى الموت، فهل كان سيموت في سبيل دينٍ لا يؤمن به، ولا يعتقد بمبادئه؟!

أليس هو الذي رأى ابنه عليّاً(ع) يصلّي خلف رسول الله(ص)، عن يمينه، فقال لابنه جعفر: أيْ بنيّ، صِلْ جناحَ ابنِ عمِّك؟!

أليس هو الذي فتح للمسلمين أراضيه، يحتمون فيها، في ما يُعرف بـ (حصار شِعَب أبي طالب)، وكان يعاني معهم أقسى حالات الجوع في سبيل الدعوة الإسلامية؟!

نعم، واللهِ فعل كلّ هذا، مؤمناً محتسباً، صابراً مجاهداً.

ولو فعله غيرُه من الصحابة لرُفع إلى أعلى علّيّين، وبُلغ به درجة القدّيسين.

أبونا خيرٌ من أبيك!… هيهاتَ لما يوعَدون

ولكنّ لأبي طالبٍ ذنبٌ واحد، أطاح بكلّ فضله وجهاده، ودفع هؤلاء إلى تكفيره ومحاربته، ألا وهو أُبُوَّتُه لأمير المؤمنين عليٍّ(ع)، الذي قتل صناديدهم، وأباد جموعهم.

ولا يُعقَل في فكرهم الشيطاني أن لا يسجد عليٌّ(ع) لصنمٍ قطّ، وأن لا يكون أبوه قد سجد لصنمٍ، وأمّا بقيّةُ الصحابة بلا استثناء فقد عبدوا وسجدوا لأصنامٍ حجريّة لا تنفع ولا تضرّ، ولا تملك من أمرها شيئاً.

إذاً لا بدّ من انتقاص عليٍّ(ع)، ولكنْ هيهات أن ينالوا منه في نفسه؛ لأنه كالشمس في وضح النهار لا يحجب ضوءَها شيءٌ، فلينتقصوا أباه، الذي كان يخفي إسلامه لمصلحة الإسلام، وقد أقرّه على ذلك رسولُ الله(ص).

وقد ترحَّم عليه رسولُ الله(ص) وترحُّمُ رسول الله(ص) عليه خيرُ دليلٍ على إيمانه وإسلامه؛ إذ لا يجوز الترحُّم على غير المسلمين.

هذه هي قصّة أبي طالب مع هذه الأمّة، حيث لم تراعِ حرمةً لرسول الله(ص) في تعاملها معه، فرسولُ الله(ص) لا يسمح لأحد أن يتجرّأ على ناصره وحاميه وكفيله.

فالحَذَر الحَذَر، عبادَ الله، من أن يكون رسول الله محمّد(ص) خصمَكم يوم القيامة، فإنّ ذلك يعني أن لا مطمع في الجنّة إلاّ على قدر طمع إبليس بها.

مَنْ هي أمُّ المؤمنين خديجة بنت خويلد الأسديّة؟

هي زوجة النبيّ(ص) الأولى، والتي كانت لها في نفس النبيِّ(ص) مكانةٌ عالية، حتى أنّه لم يتزوِّج في حياتها غيرَها، وكانت مستحقّةً لهذا الإكرام والتبجيل.

هي امرأةٌ من بني أَسَد. وكانت في جاهليتها ذاتَ غنىً ويُسْرٍ كبيرَيْن. وكان يتقدَّم لخِطْبتها الكثيرون من قومها، وهي تردُّهم واحداً تلو الآخر، بعد أن كانت قد عزمَتْ بعد زواجها الأوّل، الذي فشل، أن تتفرَّغ لتجارتها، وتترك الرجالَ وشأنَهم.

وهكذا انشغلت عن الزواج بتجارتها. ولم يُسمَعْ عنها طيلة تلك المدَّة أيُّ صفة سوءٍ، فكانت طيلة تلك الفترة مثالَ المرأة الطاهرة العفيفة، حتّى سُمِّيت في الجاهلية بـ «المرأة الطاهرة».

وفي إحدى السنوات اشتدَّتْ الفاقةُ في آل أبي طالب. وكان أبو طالب قد عجز عن السفر؛ لكِبَر سنِّه، فدعا ابنَ أخيه محمداً(ص)، وطلب منه أن يسافر في تجارةٍ لخديجة إلى الشام؛ عسى الله أن يفتح على يديه باباً للرزق.

وبالفعل وافقَتْ خديجة على خروجه بتجارتها؛ لما كانت تعرفه عنه من صدقٍ وأمانة. فانطلق(ص) بالقافلة إلى الشام. وببركته عادَتْ القافلةُ إلى مكّة وأرباحُها أضعافُ أضعاف الربح المعتاد.

وأُعجِبَتْ خديجةُ بهذه الشخصيّة الفريدة: خُلُقٌ رفيع، وإنسانيّةٌ عالية، وصفاتٌ حميدة، وشمائلُ كريمة. نعم حدَّثها بكلِّ هذا ميسرةُ، خادمُها الوفيّ، ورفيقُ محمد(ص) في سفره إلى الشام.

ومالَتْ إليه بقلبها، وتمنَّتْ لو يتقدَّم لخِطْبتها من أبيها أو عمّها، وباحت بسرِّها لأختها، واتفقتا على أن تذهب الأختُ إلى أبي طالب، وتطلب منه محمداً(ص) زوجاً لأختها «خديجة».

وبالفعل تقدَّمت إلى شيخ بني هاشم وزعيمها، فوافق على طلبها، وتحدَّث مع محمد(ص) في ذلك، فوافق أيضاً. وتمَّ الزواج بينهما، وهي في سنِّ الأربعين، وهو في سنٍّ لم تتجاوز الخامسة والعشرين.

درسٌ وعِبْرة

ونحن في هذا المقام نحاول أن ندرس هذا الحَدَث؛ لنستفيد منه ما يُمكِنُنا، فهو تجربةُ نبيِّ البشريّة، وخيرِ خلق الله أجمعين، فنقول:

ليس عيباً ولا نقصاً أن تتقدَّم امرأةٌ إلى شابٍّ؛ لتطلب منه الزواج، طلباً مؤدَّباً، خالياً من أيِّ شبهةٍ أو نوايا سيِّئة؛ لأنّه لو كان هذا نقصاً أو عيباً لما تزوَّج رسولُ الله(ص) خديجةَ بعد أن أصابها العيبُ والنقص؛ بطلبها الزواج من رسول الله(ص).

وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن ابنة نبيِّ الله شعيب تخاطبه في أمر موسى(ع)، لمّا وصل إليهم هارباً من فرعون وملأه، فقال: ﴿قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ﴾، فكان تفسيرُ قولها: «اسْتَأْجِرْهُ» أنْ جعله شعيب زَوْجاً لإحداهما بطلبٍ منها، ولم يكن ذلك نقصاً ولا عيباً.

صحيحٌ أنّ هذا يخالف العُرْف في عصرنا، ولكنَّه ليس عاراً، ولا عيباً، بل هو جائزٌ مباحٌ شرعاً. وهذا درسٌ عامّ.

مظاهر العَظَمة، وسرّ الخلود

أوّلاً: قبولُها، بل اختيارُها، لرسول الله(ص) زَوْجاً، بعد رفضها كلَّ مَنْ تقدَّم إليها من أصحاب المال والجاه والحَسَب والنَّسَب.

نعم، اختارَتْه مع فقره وقلَّة ذات يده. وهذا ما يُظهر لنا ترفُّعها عن المادّيّات، ونظرتها إلى عظمته الروحيّة، وأخلاقه الرفيعة، وصفاته الحميدة.

نعم، اختارَتْه، وهي الغنيّة الشريفة، ووضعَتْ بين يدَيْه كلَّ ما تملك من مالٍ وعبيد. وهذا ما أثار شيوخَ قريش، ممَّنْ تقدَّم لخِطْبتها فردَّتْه، أثارهم احتقارُها لهم، واحترامُها له(ص)، وأثارهم تمكينُها له من مالها، الذي ساعده كثيراً على نشر دعوته، وإبلاغ رسالة ربِّه، ومن هنا كان قوله(ص): «قام الإسلام على دعامتَيْن: مالِ خديجة؛ وسيفِ عليٍّ».

ومن هنا نستطيع أن نعرف كيف كان إيمان خديجة قويّاً راسخاً، لا يزلزله شيءٌ، على الرغم من سرعة إسلامها، فقد نزلت الدعوة يوم الاثنين، وآمنت بها خديجةُ يوم الثلاثاء، ومع ذلك فقد كان لها صلابةُ إيمانٍ، بحيث تبذل في سبيل دينها الجديد كلَّ ما تملك، وتضحّي في سبيله بكلِّ جاهها وعزِّها وسعادتها الدنيوية؛ رجاءَ السعادة الأبديّة يوم القيامة.

وثانياً: دعمُها لصمود المسلمين في (شِعَب أبي طالب)، حيث حاصَرَتْهم قريش، وقطعَتْ جميعَ العلاقات معهم، ومنعَتْ عنهم الطعامَ والشراب، طيلة ثلاث سنواتٍ. وكانت خديجة تبعث إليهم بالطعام، تشتريه من مالها، وباسمِها؛ لأنّها لم تكن من بني هاشم، وترسله مع ابن أخيها حكيم بن حزام بن خويلد. ولولا أموالُ خديجة لمات الجميع جوعاً.

وقد أثّرت مواقفُها هذه في نفس رسول الله(ص)، فكان يتحدَّث عن فضائلها بعد وفاتها كلّما تؤاتيه المناسبة، فأدركَتْ الغيرةُ مرّةً زوجتَه عائشةَ بنتَ أبي بكر، فقالت: هل كانت إلاّ عجوزاً من عجائز بني أَسَد، وقد أَبْدَلَكَ اللهُ بخيرٍ منها؟! فغضب النبيُّ(ص)، ثمَّ قال: «لا واللهِ، ما أبدَلَني اللهُ خيراً منها: آمنَتْ بي إذ كفر الناس، وصدَّقَتْني إذ كذَّبني الناس، وواسَتْني بمالها إذ حرَمَني الناس، ووَلَدَتْ إذ عقِمْتُم».

نعم، ولَدَتْ له سيّدتَنا ومولاتَنا فاطمةَ الزهراء(ع)، ومَنْ مثلُ فاطمة؟!

ما تمنَّى غيرَها نسلاً ومَنْ

يَلِدْ الزهراءَ يزهَدْ في سواها

كما وَلَدَتْ له أيضاً القاسم، وعبد الله (الطاهر)، وزينب، ورقيّة، وأمّ كلثوم، كما هو الصحيح في ذلك، والله أعلم.

ولذا تأثَّر رسول الله (ص) بوفاتها، ولا سيَّما أنّه فجع بعد ذلك بمدّةٍ وجيزة بوفاة عمِّه أبي طالب، وهو المدافع والمحامي عن النبيِّ(ص) ودعوته، فسمَّى ذلك العام (عام الحُزْن)، ولكنّه مع ذلك لم يجزَعْ، ولم يسقُطْ، بل تابع المسيرةَ، صابراً، محتسِباً ذلك عند الله، ممتثِلاً قولَه تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾. وهذا درسٌ في الصبر نتعلَّمُه من رسول الله الأكرم(ص).

نعم، هذه هي السيّدة خديجة بنت خويلد، أمُّ المؤمنين والمؤمنات. وفي الزمان مثلُها قليلٌ قليلٌ جدّاً.

اللَّهُمَّ ارزقنا في الدنيا زيارتها، وفي الآخرة شفاعتها. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.



أكتب تعليقك