أمثال/ح15: الحياة الدنيا… ﴿كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، والسلام عليكم ـ أيُّها الأحبَّة ـ ورحمة الله وبركاته.
﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(الحديد: 20).
هي الدنيا، يتصارع عليها البَشَرُ، صغيرُهم وكبيرُهم، غنيُّهم وفقيرُهم، قويُّهم وضعيفُهم، الكلُّ يريد أن يكون له نصيبٌ وافر من لَهْوها وزينتها وشهواتها ومناصبها.
وهكذا تقع الفتنة بينهم؛ بسبب التكبُّر والتفاخر والعُجْب الذي يبديه بعضُهم لبعضٍ، حتَّى وصل الأمر ببعضهم في مرحلةٍ معيَّنة أنْ زاروا المقابر لإحصاء عدد أفراد كلِّ عشيرةٍ وقبيلة، فنزل قوله تعالى، مؤنِّباً وموبِّخاً: ﴿أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ﴾ (التكاثر: 1 ـ 2).
أيُّها الأحبَّة، لقد جعل الله هذه الحياة الدنيا ساحة اختيار وإرادةٍ حُرّة؛ فمن الناس مَنْ يتعقَّل الهَدَف من وجوده، ويتدبَّر أمرَه وفق ذلك؛ ومن الناس مَنْ يقضي هذه الحياة الدنيا لاعباً لاهياً، متفلِّتاً من كلِّ عقالٍ، وبعيداً عن أيِّ مسؤوليّةٍ، وهكذا يضيِّع سِنِيَّ عمره ـ على قِصَره ـ في ما لا فائدةَ فيه، ولا ثمرةَ له.
لقد حدَّثنا القرآن الكريم أنّ المال والبنين هما زينةُ الحياة الدنيا. وهو كذلك. غير أنّ الولد قد يكون رَحْمةً ونِعمةً، كما إذا كان ولداً صالحاً بارّاً بأبوَيْه، في حياتهما وبعد مماتهما؛ وقد يكون نِقْمةً، كما إذا كان ولداً جبّاراً شقيّاً، يُرْهِق أبوَيْه بطغيانه، وكفره، وتمرُّده، وسلوكه المنحرف.
وعلى هذا الأساس أراد الله أن يبيِّن صورةَ هذه الحياة الدنيا بشكلٍ يفهمه كلُّ الناس، فضرب لها مَثَلاً من واقع حياتهم، فشبَّه الدنيا وكلَّ ما فيها بالمَطَر الغزير، الذي يُبْهج قلبَ المُزارع ـ وهو الكافر؛ لأنه يستر البَذْرة ـ بما يخرجه من النبات والزَّرْع، وهما مصدر رزق هذا الفلاّح البسيط. ولكنْ لا يلبث هذا الزَّرْع الأخضر أن يصيبه اليَباس، وتصدر من جرّاء تحريك الرياح له الأصوات، ويكون أصفر اللون، ثمَّ يكون هشيماً وهباءً منثوراً، وكأنَّه لم يكُنْ بالأمس.
هذا بالتمام هو حال دنيا الكافر، الذي قد تراه منعَّماً وثريّاً، ولدَيْه من العقارات والمؤسَّسات والأولاد والأعوان الشيءَ الكثير، لكنَّها سرعان ما تزول، ويذهب إلى لقاء الله وحدَه، فيعرف حينئذٍ أنّه كان في دار خداعٍ وغرور، وقد غرَّتْه بحُسْنها وجمالها الزائف، ولَهْوها ولعبها، وها هو اليوم في دار الحياة الحقيقيّة. فماذا أعدَّ لهذه المرحلة؟!
أيُّها الأحبَّة، الآخرةُ هي دار القرار، حيث الخلود الذي لا نهاية لأَمَده، فإمّا في عذابٍ شديد أو في رحمةٍ ورضوان. ويتحدَّد ذلك وفق العمل في دار الدنيا؛ فـ «اليومَ عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل». فأيُّ عاقلٍ يدَعُ الإعداد لتلك الدار، لينال شيئاً من متاع هذه الدنيا الفانية، التي ليس لها دوامٌ، والتي تعتريها الشدائد والمصائب والمصاعب والآلام؟! فالوعيَ الوعيَ لما هو آتٍ.
اللهُمَّ، اجعَلْ الدنيا آخر همِّنا، ولا تخرِجْنا منها حتّى ترضى عنّا. والحمد لله ربِّ العالمين.