(بتاريخ: الاثنين 17 ـ 2 ـ 2014م)
تمهيد
في حمأة الصراع الدينيّ والمذهبيّ المستعِر اليوم، تستحضرني مقالةٌ لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع): «إنّما هو سبٌّ بسبٍّ أو عفوٍ عن ذنب»([1]). وعفا أميرُ المؤمنين عن ذاك الخارجيّ الذي نعته بالكفر، متمثِّلاً قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (البقرة: 237)، غير أنّه أرادها قاعدةً تحكم سيرة وسلوك شيعته، بل المسلمين عموماً، من بعده.
فها هو خارجيٌّ مارق يكفِّر إمامَ المسلمين وخليفتَهم، فلم تثُرْ ثائرتُه، ولم يكفِّرْه، ولم يُبِحْ قتلَه، فهل من تسامحٍ بعد هذا؟!
هذا هو إسلامُ محمدٍ وعليٍّ وأهل البيت(عم)، إسلامُ المحبّة والرحمة والرأفة والعفو والحوار، تصديقاً لقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ (العنكبوت: 46)، وقوله عزَّ من قائلٍ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ (النحل: 125).
أفنترك هذه الآيات الشريفة، وهذه السيرة العطِرة لأهل العصمة والطهارة، ونتعلَّق برواياتٍ نعتقد أنّها موضوعةٌ في سبيل تشويه دين الإسلام الحنيف، وكم جَهِدَ حُكّامٌ وسلاطين لإطفاء نورِه، فأبى الله ﴿إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: 32)؟!
ومن تلك الروايات:
1ـ ما يُنسَب إلى النبيّ الأكرم محمد(ص) من أنّه قال: «يا معشر قريش، أما والذي نفسُ محمدٍ بيده، لقد جئتُكم بالذَّبْح»([2]).
وهذا حديثٌ غير مقبول، ولو رواه الثقات، ولو جاء في «بحار الأنوار» أو «الصحاح»، فهو يخالف كتابَ الله، الذي وصف نبيَّه بأنّه أُرسل «رحمةً للعالمين»، وأمره أن يدعو إلى سبيل ربِّه بالحكمة والموعظة الحسنة، فهل من الموعظة الحسنة التوعُّد بالذَّبْح؟!
2ـ ما يُنسَب إلى رسول الله(ص) من أنّه قال: «بُعثتُ بالسيف حتّى يُعبَد اللهُ لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظلِّ رمحي، وجُعل الذلّة والصَّغار على مَنْ خالف أمري، ومَنْ تشبَّه بقومٍ فهو منهم»([3]).
وكأنَّه(ص) إنّما بُعث بالسيف والقتال وإراقة الدماء، وأنّه يُؤمِّن رزقَه ممّا يحصل عليه من غنائم الحروب، قاهراً للمخالفين له، فهل يتوافق هذا مع قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107)؟!
وهذه هي الأخبار التي يتمسَّك بها بعض المسلمين اليوم لممارسة التكفير، فالذبح والقتل والسبي وسائر المنكَرات، التي تقشعرّ منها الأبدان، ويندى لها الجبين.
وعندما نُنكِر ممارسة العنف الجسديّ تجاه الآخر المختلِف في الرأي والمعتقد فإنَّنا نُنكِر كذلك العنف المعنويّ، المتمثِّل بهتك الحرمة، وتشويه الصورة، وشيطنة الهدف، من خلال حملات التضليل والتبديع والتفسيق؛ بمجرَّد اختلافٍ في وجهة نظرٍ فقهيّة، أو عقديّة، أو تاريخيّة، أو فكريّة.
فهل يدرك هؤلاء أيَّ ذنبٍ يقترفونه وهم يَصُدّون داعياً إلى الله، ومبلِّغاً رسالتَه إلى الناس؟! وبأيِّ لسانٍ سيجيبون الله يوم القيامة لو سألهم عمّا تسبَّبوا به من انفضاض الناس عن الدين والشريعة؛ لما شاهدوه وسمعوه من توهين عالِمٍ هنا، ومفكِّرٍ هناك؟!
أما آن لهؤلاء أن يرعَوُوا عن غَيِّهم، ويستغفروا من ذنبهم، ويكفِّروا عن خطيئتهم، ولو بالقليل، كأنْ يَدَعُوا علماء الوعي والإصلاح وشأنَهم في ما يطرحونه من أفكارٍ، وليكُنْ نقاشُهم ونقدُهم بالأسلوب العلميّ الوازن والرصين حَصْراً، وحسابُهم على الله.
أمّا أن يسلِّط معمَّمٌ معروف ـ أُعرِض عن ذكر اسمه صَفْحاً ـ بعضَ مرتزقته لتشويهِ صورة عالِمٍ ومفكِّر جليل، وهتكِ حرمته، وحصارِه في ساحة عمله العلميّ والتبليغيّ، ولمّا يُسأل عن رأيه في ما يطرحه ويُصدره هذا العالِم من رؤى ونظريّات يجيب بكلِّ وضوحٍ وصراحة: «ليس هناك من إشكالٍ محدَّد، ولكنّنا لا نريد «فضل الله» آخر في الساحة اللبنانيّة».
فما الذي أساء به إليكَ المرجع السيد محمد حسين فضل الله(ر)؟!
ولهذا المعمَّم وأمثاله أقول: إنّي لأستصغر قدرَك، وأستعظم تقريعَك، وأستكثر توبيخَك، فكِدْ كيدَك، واسْعَ سعيَك، وناصِبْ جهدَك، فواللهِ، لن تمحو ذكرَنا، ولن تسقط نهجَنا، وهل رأيُك إلاّ فَنَدٌ، وأيّامُك إلاّ عددٌ، وجمعُك إلاّ بَدَدٌ، يوم ينادي المنادي ألا لعنةُ الله على الظالمين، وسيجمع الله بينك وبين السيد فضل الله(ر)، فتُحاجَّ وتُخاصَم، فانظُرْ لمَنْ الفَلَج يومئذٍ يا….
وكعادتها تعرض مجلّة «الاجتهاد والتجديد»، في عددها المزدوج السادس والسابع والعشرين (26 ـ 27)، جملةً من الدراسات (ستّ عشرة دراسة متنوِّعة).
تليها قراءةٌ في كتاب «نحو نظريّة جديدة في علم الاجتماع الدينيّ»، للأستاذ الدكتور عبد الأمير كاظم زاهد.
أكمل قراءة بقية الموضوع ←