معنى الـتـقـوى
(بتاريخ: 7 ـ 1 ـ 2004م)
(اختصاراً لما كتبه الشهيد الشيخ مرتضى مطهَّري في هذا الموضوع / نشر مركز الإمام الخمينيّ الثقافيّ)
الأسئلة التمهيديّة:
1ـ ما معنى التقوى؟
2ـ هل يوجب الله الخوف؟
3ـ كيف ينظر الناس إلى التقوى؟
4ـ هل الإكراه العملي للنفس على اجتناب المعصية تقوىً أم لا؟
5ـ هل تُعارض التقوى الحريّة؟
6ـ هل تحتاج التقوى إلى حراسة وصيانة؟
***************
تمهيد
يقول الله في محكم كتابه: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ (التوبة: 109).
الكلام يقع حول التقوى من وجهة نظر الإسلام، فقد وردت كلمة التقوى في أكثر من مورد من القرآن الكريم ونهج البلاغة، بل في نهج البلاغة خطبة طويلة تدعى «خطبة المتقين»، وهذا ما يدل على اهتمام الشارع المقدس بهذا المفهوم؛ إذ أشار إليه في كلماته كثيراً، فما هو معنى التقوى في اللغة؟
التقوى لغوياً
«التقوى» مشتقّة من فعل «وقي»، وهو بمعنى الحفظ والصيانة والمحافظة على الشيء. وقد يفسّرها العوام من الناس بالخوف أو الاحتياط أو التجنّب، ولكن هذه المعاني ليست من المعاني اللغوية لهذه الكلمة. ولعلّ تفسيرها بتلك المعاني ناشئ من كون الحفظ والصيانة والمحافظة على النفس من أمر ما يستلزم الخوف من ذلك الأمر والاحتياط بالابتعاد عنه وتجنبه، ولكن لم يقم أيّ دليل على أن كلمة التقوى قد استعملت ـ ولو مجازاً ـ بمعنى الخوف أو التحفظ، وإنّما استعملت ـ كما في قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (البقرة: 278) ـ بمعنى الحفاظ على الذات، وهذا هو المعنى الصحيح للتقوى.
هل الله يوجب الخوف؟
قد يتساءل البعض: هل يوجب الله ـ وهو الكمال المطلق، وهو الأجدر بحبّ الإنسان ـ الخوف؟ ولماذا يخاف الإنسان من الله؟
والجواب: إن ذات الله لا تستوجب الخوف، وإنّما يخاف الإنسان من قانون العدل الإلهي، وهذا ما أوضحته جملة من الأدعية المأثورة كقوله (عليه السلام) :«يَا مَنْ لا يُرْجَى إِلاّ فَضْلُهُ، وَلا يُخَافُ إِلاّ عَدْلُهُ»[1]، وقوله (عليه السلام):«جَلَلْتَ أنْ يُخَافَ مِنْكَ إلاّ العَدْلُ، وأَنْ يُرْجَى مِنْكَ إلاّ الإِحْسَانُ وَالفَضْلُ».
والحقيقة أن العدل بحدّ ذاته لا يخيف، ولكن الخوف من العدل مرده إلى الخوف من النفس الأمارة بالسوء، فالإنسان يخاف من العدالة الإلهية؛ لأنّه قد ارتكب أو يخاف أن يرتكب في المستقبل من الذنوب ما يجعله ـ بمقتضى العدل الإلهي ـ عرضة لعذاب الله وعقابه. فعندما يؤمر الإنسان بأن يكون آملاً وخائفاً، فالمقصود من ذلك أن يكون في خوف دائم من طغيان نفسه؛ لئلا يفلت زمامها من يد العقل، وأن يعتمد على الله في مده بالقوة اللازمة؛ للإفلات من حبائل نفسه الأمارة بالسوء.
معنى التقوى وحقيقتها
لا بدّ لنا لمعرفة معنى التقوى وحقيقتها، من ذكر مقدمة، وهي:
لو أراد إنسان ما أن تكون له مبادئ وأهداف في الحياة، وأن يسير وفق تلك المبادئ للوصول إلى أهدافه المنشودة، فلا بدّ له من أن يختط لنفسه مساراً معيناً لا يحيد عنه مهما نازعته أهواؤه ومصالحه ونزواته إلى ذلك، وبالتالي يكون عليه أن يحافظ على نفسه من الأمور التي تتفق مع أهوائه ونزواته، وتتنافى مع الأصول والأهداف التي اتخذها لنفسه. ومن هنا نعرف أنّ التقوى بمعناها العام لازمة لحياة كلّ فرد يريد أن يكون إنساناً، وأن يحيا تحت حكم العقل، وأن يتبع قواعد وأصولاً معينة.
وأما التقوى الدينية فهي أن يحافظ الإنسان على نفسه، ويصونها عن ارتكاب كل ما يراه الدين خطأً وإثماً وفساداً وقبحاً، وهذه التقوى تتصور بصورتين:
الأولى: وهي أن يهرب الإنسان من مجتمعه ومحيطه الفاسد المليء بالآثام والمعاصي، وبهذا الهروب يمكنه الحفاظ على نفسه من ارتكاب المعاصي والآثام والأوزار، كمن يتجنب البقاء في محيط موبوء بالملاريا فيهرب إلى مكان نقي لا مرض فيه.
الثانية: وهي أن يبقى المرء في مثل ذلك المجتمع الفاسد، على أن يوجد في نفسه قوة وملكة تورثه مناعة روحية وأخلاقية تجعله لا يتأثر بهذه الآثام، ولا يقترب منها، مهما كانت المغريات كبيرة، ومهما كانت جاذبيتها شديدة، كمن يتناول لقاحاً ضدّ الملاريا ويبقى بين المرضى فإنّه لا يتأثر بالمرض أبداً.
الناس والتقوى
والعامة من الناس يتصورون التقوى بصورتها الأولى فقط، ولعلّ ذلك ناشئ من تفسيرهم للتقوى بأنّها الاحتياط والتجنب، وهكذا وصلوا إلى أن التقوى هي تجنب المجتمع الفاسد، والاحتياط بالابتعاد عنه. وهذا ما جعل مفهوم التقوى عندهم مساوياً لمفهوم الانزواء والابتعاد عن المجتمع، ولكن الصحيح أن المطلوب دينياً هو التقوى بصورتها الثانية، وهي أن ينخرط الإنسان في مجتمعه مهما كان فاسداً، بعد أن يوجد في نفسه قوّة وملكة تورثه المناعة الروحية والأخلاقية التي تمنعه من التأثر بالمفاسد والرذائل المنتشرة في ذلك المجتمع؛ إذ إن ابتعاد المرء عن المزالق لئلا ينزلق ليس بطولة، وإنما البطولة أن لا ينزلق في المحيط الزلق.
ومن اللطيف أن بعض كتب الأخلاق تنقل لنا قصصاً عن بعض القدامى أنهم كانوا يُكرهون أنفسهم عملياً على تجنب الزلل، فيضعون الحصى، مثلاً، في أفواههم لئلا يرد على ألسنتهم شيء من اللغو أو الحرام في الكلام، وتعتبر هذه الكتب أن أعمال هؤلاء هي نموذج من التقوى الكاملة. ولكن الصحيح أن التقوى الحقيقية إنّما هي تلك الروح القويّة المقدسة الرفيعة التي تحافظ على الإنسان وتقيه، وعلى المرء أن يسعى جهده لبلوغ تلك الحقيقة. وإن كان لأعمال أولئك من كمال فهو من حيث كون تلك الأعمال هي المراحل الأولية لتقوية ملكة التقوى في نفس الإنسان.
نهج البلاغة والتقوى
وقد تعرّض أمير المؤمنين (عليه السلام) في أكثر من مناسبة إلى بيان معنى التقوى وآثارها، فقال: «إِنَّ تَقْوَى اللهِ حَمَتْ أوْلِيَاءَ اللهِ مَحَارِمَهُ، وَأَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ، حَتَّى أَسهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ، وَأَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ»[2]. وها هنا وضوح تامّ في أن التقوى هي تلك الحالة المعنوية التي تحمي الإنسان من الإثم، كما أن هنا تصريحاً بأنّ مخافة الله أثر للتقوى وليست هي التقوى نفسها، وقال: «ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَة وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ: إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ، حَجَزَهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَات…. أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُها، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّار، أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ»[3]. وفي هذه الخطبة يبين لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّ إطاعة الهوى وإلقاء العنان على غارب النفس دليل على ضعف الشخصية وجبنها، فمن يتبع هوى نفسه مثله كمثل راكب فرساً شموساً جموحاً لا يستطيع كبح جماحها، ومن يتحلّ بالتقوى وضبط النفس عن اتباع الشهوات فمثله كمثل الفارس الماهر الذي يمتطي صهوة حصان مدرّب يأتمر بأمره.
وقال: «فَإِنَّ الْتَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَالْجُنَّةُ، وَفِي غَد الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّة»[4]، وقال: «اعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ، أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْن عَزِيز، وَالْفُجُورَ دَارُ حِصْن ذَلِيل، لاَ يَمْنَعُ أَهْلَهُ، وَلاَ يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ»[5]، وكل هذه الخطب وغيرها تكشف عن المعنى الحقيقي للتقوى في نظر الإسلام، فتلخص ممّا ذُكر أنّ التقوى حالة روحية تكون للإنسان بمثابة حصن وسياج وحرز وسلاح دفاعي ومطية طيعة.
التقوى والحرية
ذكرنا فيما سبق أنّ الإنسان، لكي يحيا حياة إنسانيّة بعيداً عن حياة الغاب، لا بدّ له من التقوى، بمعنى أن يحافظ على نفسه في قبال الأهواء والشهوات التي تدعوه إلى مخالفة ما رسمه لنفسه من خط سلوكي يوصله إلى هدفه المنشود.
ومن هنا نعرف أن التقوى لا تختصّ بالمتدينين من الناس، بل هي من مستلزمات الإنسانية. وهكذا صرنا نسمع بالتقوى الاجتماعية والتقوى السياسية وما أشبه ذلك، وإن كان للتقوى الدينية ما ليس لغيرها من السمو والقدسيّة والمتانة، فالإنسان الذي يريد أن يصل إلى السمو ويخرج من شريعة الغاب عليه أن يتحلى بملكة التقوى، فهي ذات بناء قوي ومستحكم لا يمكن أن تقوم إلا على أساس من الدين والإيمان المتين بالله، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ (التوبة: 109).
هل التقوى قيد يكبّل الإنسان؟
وهنا قد يسأل البعض ممّن يألفون الحريّة وينفرون من كلّ ما يضع عليها الحدود والقيود: أليست التقوى عدواً للحرية؟ أليست التقوى قيداً قد أُعدّ لتكبيل البشر؟
والجواب : إن التقوى ليست قيداً، بل هي صيانة للنفس وللروح، وإن شئت أن تسميها قيداً فقل هي قيد صائن. وليس كلّ قيد قبيحاً ومرفوضاً، فالبيت ـ بسقفه وجدرانه ـ يقيّد حركة الإنسان، ويحدّ من حريته في الاستمتاع بالهواء الطلق، وبما يحيط به من مظاهر الجمال، ولكنّه قيد صائن له من حرارة الشمس وحرّ الصيف وبرد الشتاء. والتقوى كذلك، فهي كاللباس للجسد، تحمي الروح وتصونها من كلّ ما من شأنه أن يكون خطراً عليها، وهذا ما أشارت إليه الآية الكريمة حيث قالت:﴿وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ﴾ (الأعراف: 26)، وقد جاء عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، وهو يتحدّث عن التقوى: «أَلا فَصُونُوهَا وَتصَوَّنُوا بِهَا»[6].
ولأمير المؤمنين (عليه السلام) تعبير أرفع من هذا؛ إذ يعتبر التقوى علة الحرية الكبرى، فيقول: «فَإِنَّ تَقْوَى الله مِفْتَاحُ سَدَادٍ، وذَخِيرَةُ مَعَادٍ، وَعِتْقٌ مِنْ كُلِّ مَلَكَةٍ، وَنَجَاةٌ مِنْ كُلِّ هَلَكَةٍ، بِهَا يَنْجَحُ الطَّالِبُ، وَيَنْجُو الهَارِبُ، وَتُنَالُ الرَّغَائِبُ»[7]، فالتقوى تحرّر الإنسان من قيود العبودية للرغبة والهوى، وتخلصه من سلاسل الحرص والطمع والحسد والشهوة والغضب، وبالتالي تجعله حرّاً في حياته الاجتماعية، فمن يكن عبداً للمقام والجاه سيكون عبداً لمن يمنحهما له، والعكس صحيح.
التقوى تحتاج إلى حراسة
قد يخطئ البعض، فيعتقد أنّ التقوى ـ وبما أنها حرز وحصن وصائن للإنسان ـ لا تحتاج إلى حراسة وصيانة، ويظنّ أنّه بإمكان الإنسان المتقي أن يعيش في أجواء الفساد والرذيلة دون خوف من الانحراف والمعصية. والحقيقة أنّ ذلك وهم كبير، يقع فيه هذا البعض؛ فالتقوى تحتاج إلى حراسة وصيانة لكي تبقى وتستمر، وإلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله: «أَلا فَصُونُوهَا وَتصَوَّنُوا بِهَا»[8]، فإنّ أخطاراً كثيرة تحيط بالتقوى من كلّ جانب، ومن شأنها ـ إذا لم يتنبه لها الإنسان ويبتعد عنها ـ أن تزلزل كيان التقوى عنده؛ فإنّ التقوى قد تحول بين المرء ومعاصٍ كثيرة، ولكن بعض المعاصي ذات الجاذبية الأقوى لا يمكن للتقوى وحدها أن تحول بينها وبين الإنسان، وعليه فلا بدّ من ممارسة أسلوب آخر لتجنب تلك المعاصي، ألا وهو الابتعاد عن الأجواء المغرية والدافعة نحو المعصية، وبهذا نحافظ على التقوى ونصونها من أن تنهار أمام ضغط الغريزة وقوة الشهوة.
خلاصة البحث
التقوى هي صيانة النفس والمحافظة عليها ممّا يعرضها للخطر الدنيوي أو الأخروي، وهو الممنوعات والمحرمات، وهي بهذا تعني أحد أمرين:
1ـ إمّا أن يبتعد الإنسان عن أجواء المعاصي لئلا يتأثر بذلك فيرتكب المعصية.
2ـ وإمّا أن يوجد في نفسه قوّة ومناعة روحية وأخلاقية تحجزه عن المعصية وإن كانت الأجواء المحيطة به تدعوه إليها، والمطلوب من التقوى في الإسلام هو الأمر الثاني.
ولا يظنّن أحد أنّ التقوى عدوّ للحرية، بل هي قيد صائن، تماماً كما هي القيود الصائنة الأخرى التي لا يرى أحد من الناس أنّها تقف في وجه الحرية، كاللباس والبيوت وما شاكل ذلك؛ إذ هذه الأمور لا بدّ منها لاستقامة الحياة، فكذلك هي التقوى.
والتقوى تحتاج إلى صيانة وحراسة، وإلا تعرّضت للتصدُّع والاختراق من قبل بعض المعاصي التي لها من التأثير ما ليس لغيرها من المعاصي الأُخَر.
الهوامش