15 يوليو 2016
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
2٬516 مشاهدة

العَدْلُ قوامُ الاجتماع الإنساني

2016-07-15-منبر الجمعة#ورشة عمل-العدل قوام الاجتماع الإنساني

(الجمعة 15 / 7 / 2016م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

يقول الله تبارك وتعالى: ﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل عمران: 18).

ما هو العَدْل؟

العَدْل في اللغة بمعنى الاستواء أو التسوية([1]).

وأفضل التعريفات الاصطلاحيّة التي ذُكرت للعدل هو أنّه «إعطاءُ كلِّ ذي حقٍّ حقَّه». وهو يتناسب مع المعنى اللغوي (المساواة) من حيث إنّه تسويةٌ بين أصحاب الحقوق في إعطاء كلٍّ منهم ما يستحقّه. إذاً هو تسويةٌ في الإعطاء، لا في (المُعْطى).

ويختلط الأمر على بعض الناس فيظنّون أنّ العدل هو المساواة في (المُعْطى). والحقُّ أنّ المساواة ـ وهي إعطاءُ الآخر بمقدار ما تعطي غيره ـ تختلف عن العَدْل، بل قد تنافيه أحياناً.

فهل من العَدْل أن نعطي للصغير والكبير نفس الكمِّية من الطعام مثلاً؟! هل من العدل أن نعطي جميع الموظَّفين راتباً واحداً؟!…

نعم، قد يمكننا في بعض الحالات الجمع بين العَدْل والمساواة، ولكنَّ ذلك غير مطلوبٍ، وليس بواجبٍ، فالمهمّ في تحقيق العَدْل أن أعطي صاحب الحقّ حقَّه، وأيُّ زيادةٍ على ذلك هي محض تبرُّعٍ وتفضُّلٍ، وليست واجبةً.

أنواع العَدْل

تتجلّى العدالة ـ كما الظُّلْم ـ في علاقاتٍ عديدة:

1ـ علاقة الله بعباده وعلاقة المخلوقات بالله.

2ـ علاقة البشر فيما بينهم.

3ـ علاقة البشر مع الحيوانات وعلاقة الحيوانات مع البشر.

4ـ علاقة الحيوانات فيما بينها.

5ـ علاقة الإنسان مع الطبيعة وعلاقة الطبيعة مع الإنسان.

ورُبَما أمكن تصوُّر علاقاتٍ أخرى، وقد تندرج في ما تقدَّم.

وبما أنّنا نريد التركيز على العَدْل في العلاقة بين الله ومخلوقاته ـ ولا سيَّما الإنسان ـ فإنّنا سنترك الحديث فيه إلى آخر هذا البحث، ونتناول الأنواع الأخرى قبل ذلك.

1ـ علاقة البشر فيما بينهم

أراد الله للبشر في هذه الحياة الدنيا أن تكون حياتُهم كلُّها قائمةً على العَدْل والقِسْط، ولم يَرْضَ لهم بالظُّلْم والجَوْر. ومن هنا كان تحريم كثيرٍ من المعاملات، كالقمار، والرِّبا، والتطفيف في الميزان والكَيْل عند البيع وغيره من المعاوضات، و….

وقد دلَّ على ذلك آياتٌ قرآنيّة كثيرة، نكتفي بأصرحها في هذا المجال، وهي قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).

العَدْل الشخصي والنوعي

والمطلوب هو العَدْل مع الأشخاص، ومع النَّوع البشريّ عموماً.

فكما يحرم على الإنسان أن يظلم أخاه الإنسان الحاضر معه، في الزمان والمكان نفسه، كذلك يحرم عليه أن يظلم أخاه الإنسان الذي سيأتي من بعده (الأجيال اللاحقة)، ولو بعد عشرات أو مئات السنين. ومن هنا لا يجوز للإنسان أن يستهلك ما أنعم الله به على البشريّة جمعاء من ثرواتٍ طبيعيّة، كالمياه (أنهار، ينابيع، مياه جوفيّة،…)، بشكلٍ كامل، بحيث لا يُبقي منها شيئاً للأجيال اللاحقة، بل عليه أن يضع نَصْب عينَيْه أنّ هذه الثروات ملكٌ لكافّة البشر، وفي مدى الزَّمَن، ويستطيع هو أن ينال حصَّته منها، من دون إسرافٍ ولا تبذير، وبمقدار ما يرفع حاجته الضروريّة في عصره وزمانه.

العَدْل بين الرجل والمرأة

ومن الموضوعات الإشكاليّة التي يثيرها الكثير من المفكِّرين والمثقَّفين (العدالة بين الرجل والمرأة في الإسلام)، حيث يسلِطون الضوء على بعض ما يُتوهَّم منه منافاته للعدالة بينهما، كالاختلاف في الميراث ـ ﴿لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾ (النساء: 11) ـ، وتعدُّد الزواج، وحقّ الطلاق، وولاية الزواج، وسنّ البلوغ، و…

وكلُّها مردودةٌ.

فالاختلاف في الميراث إنّما هو بين الأولاد: ﴿يُوصِيكُمْ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ﴾، وليس على الإطلاق، ولذلك فإنّ الإخوة من الأمّ إذا ورثوا أخاهم الميت يرثونه بالتساوي، وليس بالتفاضل. وكذلك قد ترث الزوجة ـ وهي امرأةٌ ـ أكثر من الولد الذَّكَر، كما لو مات وعنده زوجةٌ واحدة، و10 أبناء، فالزوجة ترث الثُّمُن (ديناراً كاملاً من 8 دنانير)، ويرث كلّ ولدٍ (0.7 دينار من الدنانير السبعة الباقية).

وتعدُّد الزواج مباحٌ للذكور، حيث لا يلزم منه فسادٌ اجتماعيّ (ميلٌ لإحداهما، وإهمالٌ تامّ للأخرى: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (النساء: 129))، أو ماليّ (تقصير في النَّفَقة: ﴿فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا﴾ (النساء: 3)). وأمّا تعدُّد الأزواج للنساء فيلزم منه الفساد دائماً، وهو اختلاط الأنساب، فلا يُعرَف أبٌ لمولودٍ. وهذا فسادٌ كبير، اجتماعيّاً وماليّاً وتربويّاً و…

وحقّ الطلاق للرجال إنّما هو في مقابل ما أنفقوا من أموالهم حيث هم الذين يعطون المهر للمرأة، وليس العكس، ومَنْ عليه الغُرْم فله الغُنْم. كما أنّ الطلاق أبغض الحلال إلى الله، لما فيه من تفكُّك الأسرة وتشتُّتها. والمرأةُ، بما أودعه اللهُ فيها من عاطفةٍ ورأفة ورحمة ورِقّة، ولا بُدَّ أن تكون فيها لتصبر على زوجها أوّلاً، ولتصبر على تربية أولادها ثانياً، وعواطفها تغلب حكمتها، ومشاعرها تسيطر على حركتها، في الرِّضا والغضب على السواء، لا يُؤْمَن أن تسارع إلى الطلاق عند أدنى مشكلةٍ أو ضغط أو ضيق تتعرَّض له، فتقع الكارثة الاجتماعيّة. فتلافياً لهذا الأمر كان الطلاق من حقّ الرجل؛ لما أنفقه من ماله (المهر)؛ ولما فضَّله الله تعالى به من سيطرة العقل والحكمة على العواطف والمشاعر: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34).

وولاية الزواج، حيث يجب على الفتاة استئذان أبيها، ولا يجب ذلك على الفتى، إنّما هو حرصاً على المرأة أن تنجرّ خلف مشاعرها الدافقة، وعواطفها الجيّاشة، في التعلُّق بشخصٍ مخادع لا يريد لها الخير، وليس في ارتباطها به أيّ مصلحةٍ.

وأمّا سنّ البلوغ فهي تبلغ في التاسعة من عمرها أو بالحيض (وهو غالباً في الثانية عشرة من عمرها)، وهو يبلغ في الرابعة عشر من العمر، وهذا ليس انتقاصاً من المرأة، بل هو تشريفٌ لها، وتأكيدٌ على أنّها كائنٌ عاقلٌ، بل إنّها تعقل قبل الرجل، فهي كائنٌ ذو عقلٍ راجح، إلاّ أنّ المانع من التعامل معها على هذا الأساس أنّها في الوقت عينه ذات عواطف ومشاعر وأحاسيس مرهفة وجيّاشة، وقد تتعطَّل بسببها قواها العقليّة، فتصدر منها بعض الأفعال أو المواقف بتسرُّعٍ وتهوُّر ومن دون حسابٍ.

وخلاصةُ الكلام: إنّ ما أقرَّه الإسلام وفرضه من تشريعاتٍ تتجلّى فيها العدالة بين الرجل والمرأة (العدالة وليس المساواة؛ فالظلم هنا قبيحٌ) هو من مظاهر العَدْل الإلهيّ في خَلْقه. فالرجل والمرأة سواءٌ في التكليف والمسؤوليّة، ولكنّ كلاًّ منهما مكلَّفٌ بما يَطيقه ويقدر عليه، ولا يُوقعه في العُسْر والحَرَج والمَشَقّة. وللحديث تتمّةٌ، وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) راجِعْ: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 4: 246.



أكتب تعليقك