11 أكتوبر 2014
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
4٬569 مشاهدة

عيد الغدير الأغرّ: وجوب الولاء والطاعة لأولي الأمر

(بتاريخ: الخميس 9 / 10 / 2014م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وبليغ خطابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59).

مَنْ هم أولو الأمر؟

في هذه الآية الكريمة يدعونا الله سبحانه وتعالى إلى طاعته، وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر.

فمَنْ هم أولو الأمر؟ وكيف يأمرنا الله بطاعتهم؟ وهل تجب علينا طاعتُهم مطلقاً؟

لقد بعث الله سبحانه وتعالى رسوله محمّداً في عصرٍ مظلم، يعيش أهله كلَّ مظاهر العدوانيّة والهَمَجيّة، يسفكون دماء بعضهم البعض، ويئدون البنات، ويعبدون الأوثان، وهي التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عنهم شيئاً.

وجاء رسولُ الله(ص) برسالةٍ هي أفضل الرسالات وأتمّها، وتحمَّل مسؤوليّة تبليغها للناس، القاصي منهم والداني، فكان كلُّ همِّه أن يوصل هذه الرسالة إلى أكبر عددٍ من البشر، ولكنّ عمر الإنسان ـ مهما بلغ ـ لا بدّ وأن ينتهي: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ (الزمر: 30)؛ ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ﴾ (الأنبياء: 34).

وبما أنّ الرسالة الإسلاميّة هي خاتمة الرسالات فلن يكون بعد رسول الله(ص) نبيٌّ جديد، يكمل النهج ويبلِّغ تعاليم الله للناس. وإذا بقي الناس بدون رسولٍ فسوف تضيع من بينهم أحكام الله تعالى، وسيبقى الجاهل منهم على جهله، ولن تكون لله عليه حجّةٌ في عدم التزامه. وهذا منافٍ لإرادة الله عزَّ وجلَّ.

لذا كان الأمر الإلهيّ للنبيّ محمد(ص) بتنصيب خليفةٍ من بعده؛ لئلاّ تضيع الرسالة، ويذهب جهده هباءً منثوراً: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67).

ومن هنا أيضاً كان الإعلان الإلهيّ عن يأس الكفّار من القضاء على دين الله الأتمّ والأكمل، وهو الإسلام، وعن إكمال الدين وإتمام النعمة بتنصيب رسول الله(ص) للخليفة من بعده؛ إذ بهذا التنصيب استمرّت الحجّة لله على جميع البشر إلى يوم القيامة: ﴿الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة: 3).

حدود الطاعة

وبالعودة إلى الآية الكريمة نلحظ أنّ الله سبحانه وتعالى قد أمر بإطاعته أوّلاً، ثمّ فسَّر ذلك بإطاعة الرسول وأولي الأمر، ولم يحدِّد الله جلَّ وعلا الموارد التي يجب فيها إطاعة هؤلاء، ما يدلّ على أنّه عزَّ وجلَّ قد أمر بطاعتهم في كلِّ شيءٍ، أي ﴿مَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ (الحشر: 7) وعندما يأمر الله سبحانه وتعالى بطاعة أناسٍ في كلِّ شيءٍ فمعنى ذلك أنّه ينبغي أن يكون هؤلاء ممَّنْ لا يخطئون في شيءٍ، لا عن جهلٍ، ولا عن نسيانٍ، ولا عن غفلةٍ، وإلاّ فقد يأمروننا بخلاف ما أمر الله به، وإذا وجبت علينا طاعتُهم فهل نطيعهم في معصية الله؟!

أيُّها الأحبَّة، هذا دليلٌ مهمّ لإثبات عصمة الأنبياء والأئمّة(عم).

ومن هنا نعرف أنّ الرسول ووليّ الأمر لا بُدَّ أن يكون معصوماً. والدليلُ هذه الآيةُ وغيرها.

الأئمّة المعصومون(عم) هم أولو الأمر

ومن خلال ذلك يمكننا تحديد هويّة أولياء الأمر، الذين أُمرنا بطاعتهم. فليسوا كلَّ مَنْ تسلَّط على رقاب الناس، من زعيمٍ أو أميرٍ أو مَلِكٍ أو وزير، كما يقول بذلك بعض أهل السنّة([1]).

بل هم الأئمّة المعصومون، الذين أذهب الله عنهم الرِّجْس وطهَّرهم تطهيراً، والذين نصَّبهم رسول الله(ص)، ونصَّ على أنّهم خلفاؤه من بعده، وأمر الناس بطاعتهم، وأكَّد كونَهم مع الحقّ لا يحيدون عنه، لأنّهم عِدْل القرآن، وعضده، والثِّقْل الآخر له، فهُمْ والقرآن في خطٍّ واحد، لا يفترقان، حتّى يَرِدَا عليه(ص) الحوضَ يوم القيامة([2]).

تنصيب أمير المؤمنين عليّ(ع) خليفةً ووليّاً في غدير خمّ

وبما أنّنا تعرّضنا لذكر الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67)، فمن المناسب أن نعرف أنّه قد رُوي في مناسبة نزول هذه الآية أنّها نزلت في حقّ عليّ بن أبي طالب(ع)([3]).

فكيف حدث هذا؟ ومتى؟ وأين؟

كان رسول الله(ص) عائداً من مكّة المكرَّمة إلى المدينة المنوَّرة في السنة التاسعة للهجرة، وهي السنة الأخيرة في حياته الشريفة، ولمّا وصل إلى مفترق الطرق، نحو الشام والعراق ومصر، وأراد أهل كلّ بلدٍ أن يشدّوا رحالهم إلى وطنهم وأرضهم، وقد بلغوا ما يقارب 100000 نسمة، أُوحي إليه(ص) بهذه الآية الشريفة: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67).

وهي خطابٌ له(ص) أن يبلِّغ أمراً قد نزل إليه من ربِّه، وفيها تأكيدٌ على أهمّيّة هذا البلاغ؛ إذ بدونه لا تكتمل الرسالة، ولا يصدق على رسول الله(ص) أنّه قد بلَّغ رسالة ربِّه.

وكي لا يهاب قوّةً، ولا يخشى من سطوةٍ، جاءه النداء الإلهيّ المطمئن: ﴿وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، يعصمك من كلامهم، ويعصمك من تهديداتهم، ومن كلّ أشكال وألوان العدوان الذي قد يحصل منهم؛ نتيجة هذا البلاغ، الذي قد يخالف أهواءهم وأمنياتهم.

عندها نادى النبيّ(ص) في الناس أن اجتمعوا، فالصلاةُ، صلاةُ الظهر، جامعةٌ.

وتعجَّب الناس، واستغربوا، أفي مثل هذا الوقت في حَرِّ الظهيرة يأمرنا رسول الله(ص) أن نجتمع إليه؟! ولكنْ لم يكن لهم أن يعصُوه، فاجتمعوا، وبعد الصلاة وقف فيهم خطيباً، فنعى إليهم نفسه، وأخبرهم أنّه مفارقُهم في عامهم هذا، ثمّ أوصاهم بالتمسُّك بالثقلين: كتاب الله، والعترة الطاهرة، ثمّ أمسك بيد عليّ بن أبي طالب(ع)، ورفعها عالياً، حتّى بان بياض إبطَيْهما، يريد أن يراهما جميع الناس هناك، وقال: «يا أيها الناس، إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمَنْ كنتُ مولاه فهذا مولاه، يعني علياً رضي الله عنه، اللهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه»([4]).

هذا مختصرٌ مما قاله(ص) في ذلك الموضع المعروف بـ (غدير خمّ)، وهناك نزلت الآية: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة: 3).

فكمال الدين بالولاية لعليّ(ع). ومن هنا كان (عيد الغدير)؛ إذ في ذلك اليوم أمر رسول الله(ص) أصحابه بتهنئة عليٍّ على ما ارتضاه الله له من الولاية والإمرة، فقال له عمر بن الخطّاب: «هنيئاً يا بنَ أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة»([5]).

وقد ورد في هذا العيد أنّه أفضل أعياد أمّة الإسلام([6]).

ويستأذن حسّانُ بن ثابت رسولَ الله(ص) في أن يقول في عليٍّ(ع) شعراً، فيأذن له، فينشد قائلاً:

يناديهم يومَ الغدير نبيُّهم

بخمٍّ وأسمِعْ بالنبيِّ مناديا

وقد جاءه جبريلُ عن أمرِ ربِّه

بأنَّكَ معصومٌ فلا تكُ وانيا

وبلِّغهُمُ ما أنزل اللهُ ربُّهم

إليكَ ولا تخشَ هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافعَ كفِّه

بكفِّ عليٍّ مُعْلِنَ الصوت عاليا

فقال: فمَنْ مولاكُمُ ووليُّكُمْ؟

فقالوا، ولم يُبْدوا هناك تَعاميا

إلهُكَ مولانا، وأنتَ وليُّنا

ولنْ تَجِدَنْ فينا لك اليوم عاصيا

فقال له: قُمْ يا عليُّ فإنَّني

رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا

فمَنْ كنتُ مولاهُ فهذا وليُّه

فكونوا له أنصارَ صِدْقٍ مَوَاليا

هناك دعا اللهُمَّ والِ وليَّه

وكُنْ للذي عادى عليّاً مُعاديا

فيا ربِّ انصُرْ ناصريه لنصرهم

إمامَ هُدىً كالبَدْر يجلو الدَّياجيا

ومع هذا كلّه، وما فيه من الظهور والوضوح في أنّ رسول الله(ص) قد عيَّن عليّاً خليفةً على المسلمين من بعده، يأتي أناسٌ يُزيِّن لهم الشيطان تفسير كلام رسول الله(ص) وفق أهوائهم، فيفسِّرون قوله(ص): «مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه» بـ (مَنْ كنتُ أحبُّه)، أو (مَنْ كنتُ ناصرَه).

ولا ندري ما علاقة هذا بهذا؟! وهل يُعقَل أن يجمع رسولُ الله(ص) الناس في حَرِّ الظهيرة، في العراء، ليعلن لهم عن حُبِّ عليٍّ(ع) لهم، ونصرته إيّاهم؟!

وعليه فالحديث مع ما قد حفَّ به من القرائن نصٌّ جليٌّ في خلافة عليّ بن أبي طالب(ع)، ولا يقبل تفسيراً أو تأويلاً، وليس إلى صرفه عن هذا المعنى من سبيلٍ. وهذا واضحٌ لمَنْ كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيدٌ.

حسدٌ وأحقادٌ

لكنّ الحِقْد والحَسَد يضجّان في نفوسٍ مريضة، لا تحبّ أن ترى مَنْ هو أفضل منها، وقد جعلا الكثير من هؤلاء الذين بايعوا ينقلبون على أعقابهم، فينكثوا بيعتهم، وينقلبوا على صاحب الحقّ الشرعيّ، الذي سمعوا تعيينه وتنصيبه بآذانهم مباشرةً دون وسيط، فسلبوا صاحب الحقّ حقَّه؛ حسداً من عند أنفسهم، وبغضاً حملوه معهم منذ أن قاتلهم وهم على شِرْكهم، فهزمهم الغزوة تلو الغزوة.

ولله درّ خطيب المنبر الحسينيّ الشيخ أحمد الوائلي(ر) صادقاً في تصويره حال أمير المؤمنين(ع) مع حاسِديه:

حِقْدٌ إلى حَسَدٍ وخِسّةِ مَعْدِنٍ

مطرَتْ عليكَ وكلُّهُنَّ هَتونُ

راموا بها أن يدفنوك فَهَالَهُم

أن عاد سعيُهُمُ هو المدفونُ

وتوهَّموا أن يُغرقوك بشَتْمِهِمْ

أَتَخاف من غَرَقٍ وأنتَ سَفينُ

ستظلُّ تحسبُكَ الكواكبُ كوكباً

ويهزُّ سَمْعَ الدَّهْرِ منكَ رَنينُ

وتعيش من بعد الخلود دلالةً

في أنَّ ما تهوى السماءُ يكونُ

تهنئةٌ

في عيد الله الأكبر، عيد الغدير الأغرّ، نحمد الله جلَّ وعلا على كمال الدين وتمام النعمة، ونسأله أن يجعلنا وإيّاكم من المتمسِّكين بولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، هذا العبد الصالح، المطيع لله ورسوله، وذاك هو سرُّ عظمته. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) فقد روى مسلم في الصحيح 6: 20، عن محمد بن سهل بن عسكر التميمي، عن يحيى بن حسّان، وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، عن يحيى (وهو ابن حسّان)، عن معاوية (يعني ابن سلام)، عن زيد بن سلام، عن أبي سلام، قال: قال حذيفة بن اليمان: قلتُ: يا رسول الله، إنا كنا بشرٍّ، فجاء الله بخير، فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرٌّ؟ قال: نعم، قلتُ: هل وراء ذلك الشرّ خيرٌ؟ قال: نعم، قلتُ: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم، قلتُ: كيف؟ قال: «يكون بعدي أئمّةٌ لا يهتدون بهُداي، ولا يستنّون بسنّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلتُ: كيف أصنع، يا رسول الله، إنْ أدركتُ ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير. وإنْ ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمَعْ وأطِعْ».

وقال النووي في شرح صحيح مسلم 12: 229: «وقال جماهير أهل السنّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظُه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك. وقال النووي قبل ذلك: وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرامٌ؛ بإجماع المسلمين، وإنْ كانوا فسقةً ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرتُه».

ويقول صالح الورداني في كتابه مدافع الفقهاء، التطرُّف بين فقهاء السلف وفقهاء الخلف: 46 ـ 47: ويرى كثيرٌ من الفقهاء أن الإمامة تنعقد بثلاثة أوجه هي:

الأوّل: العهد إليه من سابقه، كما فعل أبو بكر مع عمر حين أوصى إليه بالخلافة بعده.

الثاني: اتفاق أهل الحلّ والعقد، وهم مجموعة معينة من الخليفة.

الثالث: القهر والغلبة، أي الاستيلاء على الحكم بالقوّة، وقد حدث هذا مع كثير من الحكّام على مرّ تاريخ المسلمين.

ثمّ ينقل الورداني عن ابن حزم قوله: عقد الإمامة يصحّ بوجوه: أوّلها وأفضلها وأصحّها: أن يعهد الإمام الميت إلى إنسان يختاره إماماً بعد موته، وسواء فعل ذلك في صحّته أو في مرضه وعند موته؛ إذ لا نصّ ولا إجماع على المنع من أحد هذه الوجوه، كما فعل الرسول(ص) بأبي بكر، وكما فعل أبو بكر بعمر، وكما فعل سليمان بن عبد الملك بعمر بن عبد العزيز. وهذا هو الوجه الذي نختاره، ونكره غيره؛ لما في هذا الوجه من اتّصال الإمامة، وانتظام أمر الإسلام وأهله، ورفع ما يتخوَّف من الاختلاف والشغب ممّا يتوقَّع في غيره من بقاء الأمّة فوضى ومن انتشار الأمر وارتفاع النفوس وحدوث الأطماع. فإنْ مات الإمام ولم يعهد إلى إنسان بعينه، فوثب رجلٌ يصلح للإمامة، فبايعه واحدٌ فأكثر، ثم قام آخر ينازعه، ولو بطرفة عين بعده، فالحقّ حقّ الأول، وسواء كان الثاني أفضل منه أو مثله أو دونه؛ لقول الرسول(ص): فُوا بيعة الأوّل فالأوّل، فمَنْ جاء ينازعه فاضربوا عنقه، كائناً مَنْ كان (الفصل في الملل والنحل، باب الكلام في عقد الإمامة بماذا تصحّ؟، ح4).

ثمّ يقول الورداني: وقد استفزَّت علاقة الفقهاء بالحكّام ابن الجوزي في زمانه فكتب [في كتابه تلبيس إبليس] يقول: ومن تلبيس إبليس على الفقهاء مخالطتهم الأمراء والسلاطين، ومداهنتهم، وترك الإنكار عليهم، مع القدرة على ذلك، وربما رخَّصوا لهم في ما لا رُخْصة لهم فيه؛ لينالوا من دنياهم عَرَضاً.

([2]) نقل الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 164 ـ 165، حديثاً عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: لمّا صدر رسول الله(ص) من حجّة الوداع نهى أصحابه عن سمرات متفرقات بالبطحاء أن ينزلوا تحتهنّ، ثم بعث إليهنّ فقمّ ما تحتهنّ من الشَّوْك، وعمد إليهنّ فصلّى عندهنّ، ثم قام، فقال: «يا أيها الناس، إنه قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمَّر نبيٌّ إلاّ نصف عمر الذي يليه من قبله، وإنّي لأظنّ أنّه يوشك أن أُدعى فأجيب، وإني مسؤولٌ وأنتم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلَّغت وجهدت ونصحت، فجزاك الله خيراً، قال: أليس تشهدون أن لا إله إلاّ الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن جنّته حقّ، وناره حقّ، وأنّ الموت حقّ، وأنّ البعث حقّ بعد الموت، وأنّ الساعة آتيةٌ لا ريب فيها، وأنّ الله يبعث مَنْ في القبور؟ قالوا: بلى، نشهد بذلك، قال: اللهمّ اشهد، ثم قال: يا أيها الناس، إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أَوْلى بهم من أنفسهم، فمَنْ كنتُ مولاه فهذا مولاه، يعني علياً رضي الله عنه، اللهمّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، ثم قال: يا أيها الناس، إني فرط، وأنتم واردون عليّ الحوض، حوض ما بين بصرى إلى صنعاء، فيه عدد النجوم قدحان من فضة، وإني سائلكم عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما؛ الثقل الأكبر كتاب الله عزَّ وجلَّ، سبب طرفه بيد الله عزَّ وجلَّ وطرفه بأيديكم، فاستمسكوا به لا تضلوا، ولا تبدِّلوا؛ وعترتي أهل بيتي، فإنّه قد نبّأني اللطيف الخبير أنهما لن يتفرَّقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض».

ثمّ قال الهيثمي: رواه الطبراني. وفيه زيد بن الحسن الأنماطي، قال أبو حاتم: منكر الحديث، ووثَّقه ابن حِبّان، وبقيّة رجال أحد الإسنادين ثقاتٌ.

وروى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين 3: 109، عن أبي الحسين محمد بن أحمد بن تميم الحنظلي ببغداد، عن أبي قلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي، عن يحيى بن حمّاد؛ وروى عن أبي بكر محمد بن أحمد بن بالويه وأبي بكر أحمد بن جعفر البزّار، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يحيى بن حماد؛ وروى أيضاً عن أبي نصر أحمد بن سهل الفقيه ببخارى، عن صالح بن محمد الحافظ البغدادي، عن خلف بن سالم المخرمي، عن يحيى بن حماد، عن أبي عوانة، عن سليمان الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل، عن زيد بن أرقم قال: لما رجع رسول الله(ص) من حجّة الوداع، ونزل غدير خمّ، أمر بدوحات فقممن، فقال: «كأنّي قد دُعيت فأجبت، إنّي قد تركتُ فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله تعالى؛ وعترتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتّى يَرِدا عليَّ الحوض، ثم قال: إن الله عزَّ وجلَّ مولاي، وأنا مولى كلِّ مؤمنٍ، ثم أخذ بيد عليٍّ رضي الله عنه، فقال: مَنْ كنتُ مولاه فهذا وليُّه، اللهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه، وذكر الحديث بطوله».

ثمّ قال الحاكم: هذا حديثٌ صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرِّجاه بطوله.

([3]) روى الواحدي في أسباب نزول الآيات: 135، عن أبي سعيد محمد بن عليّ الصفار، عن الحسن بن أحمد المخلدي، عن محمد بن حمدون بن خالد، عن محمد بن إبراهيم الخلوتي، عن الحسن بن حمّاد سجادة، عن عليّ بن عابس، عن الأعمش وأبي حجاب، عن عطيّة، عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية ـ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ ـ يوم غدير خمّ، في عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.

وروى الحسكاني في شواهد التنزيل 1: 239، عن الحسن بن عليّ، عن محمد بن عمران، عن عليّ بن محمد الحافظ، عن الحسين بن الحكم الحبري، عن حسن بن حسين، عن حبان، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في قوله: ﴿بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ نزلت في عليّ، أمر رسول الله أن يبلِّغ فيه، فأخذ بيد عليٍّ، وقال: «مَنْ كنت مولاه فعليٌّ مولاه».

([4]) الهيثمي، مجمع الزوائد 9: 164 ـ 165.

([5]) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 4: 281، عن عفّان، عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب، قال: كنا مع رسول الله(ص) في سفرٍ، فنزلنا بغدير خمّ، فنودي فينا: الصلاة جامعة، وكسح لرسول الله(ص) تحت شجرتين، فصلّى الظهر، وأخذ بيد عليٍّ رضي الله تعالى عنه، فقال: ألستم تعلمون أنّي أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أنّي أَوْلى بكلِّ مؤمنٍ من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: فأخذ بيد عليٍّ، فقال: «مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه، اللهمَّ والِ مَنْ والاه، وعادِ مَنْ عاداه»، قال: فلقيه عمر بعد ذلك، فقال له: هنيئاً يا بن أبي طالب، أصبحتَ وأمسيتَ مولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة.

([6]) روى الصدوق في الأمالي: 187 ـ 188، عن الحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي، عن فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي، عن محمد بن ظهير، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عم)، قال: قال رسول الله(ص): «يوم غدير خمّ أفضل أعياد أمّتي، وهو اليوم الذي أمرني الله تعالى ذكره فيه بنصب أخي عليّ بن أبي طالب عَلَماً لأمتي يهتدون به من بعدي، وهو اليوم الذي أكمل الله فيه الدين، وأتمَّ على أمّتي فيه النِّعمة، ورضي لهم الإسلام ديناً».



أكتب تعليقك