نهج الإسلام، الإنفاق في سبيل الله
(الجمعة 13 / 2 / 2015م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
تمهيد
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه وبليغ خطابه: ﴿هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ﴾ (محمد: 38).
في هذه الآية المباركة يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن مفهومين متناقضين، ونهجين مختلفين: نهج إلهيّ يتمثَّل بالإنفاق والبذل والعطاء في سبيل الله؛ ونهج شيطانيّ يتمثَّل بالبخل والإمساك والتقتير.
ولكلِّ نهجٍ من هذين النهجين أقسامٌ وفروع. وهي موضوع حديثنا هذا اليوم؛ لنتعرَّف الخطوط العامّة والخاصّة لنهج الله فلا نحيد عنها، والخطوط العامّة والخاصّة لنهج الشيطان فلا نقترب منها.
النهج الإلهيّ الإسلاميّ هو الإنفاق في سبيل الله. وبما أنّ موارد الإنفاق في سبيل الله متعدِّدة كان الإنفاق في سبيل الله أنواعاً متعدِّدة أيضاً؛ فهناك إنفاقٌ للمال؛ وإنفاقٌ للوقت؛ وإنفاقٌ للعلم.
1ـ إنفاق المال في سبيل الله
أمّا إنفاق المال في سبيل الله فأن تؤدّي ما فرضه اللهُ عليك من حقوقٍ شرعيّة، كالخمس والزكاة، في الحدّ الأدنى، وإلاّ فهناك الصدقات لمساعدة المحتاجين، والتبرُّعات لبناء الصروح التي من خلالها ينتشر الدين، كالمساجد والحسينيّات وغيرها. وهناك أيضاً دعمُ النشاطات والحركات الثقافيّة والسياسيّة والجهاديّة الصالحة والهادفة. وهذه الأمور كلُّها ممّا حثَّ عليه القرآن الكريم والسنّة الشريفة.
فها نحن نقرأ في كتاب الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ (سبأ: 39)، ﴿وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال: 60).
وقد رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إنّ الصدقة تطفئ غضب الربّ»([1])، «وداووا مرضاكم بالصدقة»([2])، وغيرها من الأحاديث.
ولكنْ إذا لم تُرِدْ أو لم يكن باستطاعتك أن تدفع الصدقة فعلى الأقلّ أدِّ ما فرضه الله عليك من خمسٍ وزكاة. فكَمْ هم الذين لا يؤدّون ما عليهم من حقوق شرعيّة، وبالتالي يبقى الفقراء والمساكين يئنّون جوعاً ويتململون من البرد؟! وقد رُوي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) أنّه قال: «إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقيرٌ إلاّ بما مُتِّع به غنيٌّ، والله تعالى سائلُهم عن ذلك»([3]). هؤلاء الذين لا يدفعون للفقراء والمساكين نصيبهم هم لصوصٌ وخَوَنة، ولو كانوا من أهل الجاه والشهرة والمناصب في المجتمع.
يُروى أنّ أحد العلماء الأفاضل ذهب إلى قريةٍ من القرى للدعوة والتبليغ، ففوجئ بأنّ أهلها ـ مع ما هم عليه من التزام بالصلاة والصيام ـ لا يؤدّون خمساً ولا زكاة، فقرَّر أن يعظهم، وينبِّههم إلى خطورة ما هم عليه، ولكنْ بطريقةٍ لا تنفِّرهم من الدين. وكان ذكيّاً بارعاً في دعوته، فوقف فيهم خطيباً يحدِّثهم عن الخيانة، ثمّ أخذ يسرد عليهم قصّةً قصيرة ذات مغزى، فقال: كان هناك رجلٌ قروي أحوجَتْه الظروف وهو في المدينة ذات يومٍ إلى استدانة ليرةٍ من صديقٍ له هناك، ولمّا عاد إلى قريته ذهب إلى صديقه التاجر، الذي ينزل كلَّ يومٍ إلى المدينة، وطلب منه أن يحمل ليرةً إلى فلانٍ (الذي استدان منه)، وجعل له مقابل ذلك ليرةً، فوافق مسروراً، وافترقا. وبعد قليلٍ عاد ليقول: هذه ليرةٌ ثانية، ولكنْ لا تنسَ الأمانة؛ فإنَّها مسألةٌ مهمّة، وافترقا. وبعد قليلٍ عاد ليقول: ليكُنْ الإيصال في الموعد الفلاني وهذه ليرةٌ ثالثة، وافترقا. وعاد في المرَّة الرابعة ليقول: هذه ليرةٌ رابعة، وليكُنْ كلُّ همِّك في ذلك اليوم إيصال الليرة إلى صاحبها. فأخذ التاجر الليرات الأربعة على أن يوصِل الخامسة إلى صاحبها. وفي الطريق سوَّلَتْ له نفسه أن يستأثر بالخامسة لنفسه أيضاً. وهنا انطلق الحضور يسبُّونه ويلعنونه وينعتونه بـ (الخائن) و(السارق)، فقال: مهلاً مهلاً، إذا كان خائناً وسارقاً بنظركم فلماذا تفعلون مثله؟! الله أعطاكم خمس حصص من المال، على أن تأخذوا أربعاً لأنفسكم، وتسلِّموا الخامسة إلى مَنْ قد عيَّنهم لكم، فإذا بكم تأخذون الحصص كلَّها، ولا توصلون الأمانة إلى أهلها. فما الفرق بينكم وبينه؟! فالتفتوا لأنفسهم، وعادوا إلى رشدهم، وصاروا يخرجون الخمس والزكاة من أموالهم.
2ـ إنفاق الوقت في سبيل الله
وأمّا إنفاق الوقت في سبيل الله فأن تخصِّص جزءاً معيَّناً من وقتك لطاعة ربِّك، والتفكُّر في أمرك. وهذا لا يحصل إلاّ نادراً، حتّى وسط الشباب المؤمن. فالوقت الذي يُصرَف في الطاعة والعبادة لا يتجاوز غالباً الساعة أو الساعتين، بينما تصرف بقيّة الوقت في اللَّعِب واللَّهْو.
وهذه الساعات ـ أيُّها الأحِبَّة ـ حتّى لو قُضيَتْ في المباح ـ الذي لا يُحصِّل ثواباً ولا يحمِّل إثماً ـ سوف يندم المؤمن على تضييعها. ففي القيامة يُفتح للإنسان ثلاث خزانات؛ فواحدةٌ مملوءة بالحسنات، وهي ساعة الطاعة والعبادة، فيدخله منها السرور؛ وواحدة مملوءة بالسيّئات، وهي ساعة المعصية، فيدخله منها حزنٌ شديد؛ وواحدةٌ فارغةٌ من كل شيء، فينظر إليها وقد امتلأ حسرةً وندامة لأنّه لم يملأها بالحسنات، وهو أحوج ما يكون إليها آنذاك.
3ـ إنفاق العلم في سبيل الله
وأمّا إنفاق العلم فأن يعمد كلُّ مَنْ لديه علمٌ يفيد الناس، ويرفع مستواهم، ويحصِّنهم من المعصية والشبهة والانحراف، إلى إظهار ذلك العلم، وتبيانه للناس. وقد رُوي عن النبيّ الأكرم محمد(ص) أنّه قال: «إذا ظهرت البدع في أمَّتي فليُظْهِرْ العالمُ علمَه، فمَنْ لم يفعل فعليه لعنة الله»([4]).
وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى مسألة وجوب التعلُّم، فكما يجب على العالم أن يظهر علمه يجب على الجاهل ـ وليس الجهل عَيْباً؛ فكلُّنا كنّا حين خُلِقْنا جاهلين، وإنَّما العَيْب ترك التعلُّم ـ أن يبحث عن ذلك العلم؛ ليستفيد منه. وهذا ما أكَّده أمير المؤمنين(ع) حيث يقول: «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا»([5]).
ورُوي «أنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنتَ عالماً؟ فإنْ قال: نعم قال له: أفلا عملْتَ بما علمْتَ؟ وإنْ قال: كنتُ جاهلاً قال له: أفلا تعلَّمت حتَّى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة لله عزَّ وجلَّ على خلقه»([6]).
هذا نهج الإسلام. وأمّا نهج الكفر والضلال فهو البخل؛ فإذا سألتَهم معونةً منعوك؛ وإذا طلبْتَ نصحهم لم ينصحوك؛ وإذا أردتَ منهم عِلْماً لم يُعطوك. وهؤلاء بشَّرهم الله سبحانه وتعالى بعذابٍ أليم، حيث يقول: ﴿وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (التوبة: 34)، وهؤلاء ﴿سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (آل عمران: 180)، فيكون ذهبُهم وفضّتُهم سلاسل يُقادون بها إلى النار، ويكون علمُهم وَبالاً عليهم.
نسأل الله العليّ القدير أن يجعلنا من أهل الكَرَم والجود بالنفس والمال والعِلْم، بعيداً عن كلّ شُحٍّ وبخلٍ وتقتير، وأن يجود علينا بعفوه ورضاه، إنَّه وليُّ الإعطاء والمنع. وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد: 76، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة قال: حدَّثني جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، أنّ رسول الله(ص) قال: «إنّ المعروف يمنع مصارع السوء، وإنّ الصدقة تطفئ غضب الربّ، وصلة الرحم تزيد في العمر وتنفي الفقر، وقول (لا حول ولا قوة إلاّ بالله) فيه شفاء من تسعة وتسعين داء، أدناها الهمّ».
ورواه الطوسي في الأمالي: 673، عن أبي عبد الله أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر، عن أبي الحسن عليّ بن محمد بن الزبير القرشي، عن عليّ بن الحسن بن فضّال، عن العبّاس بن عامر، عن أحمد بن رزق الغمشاني، عن أبي أسامة، عن أبي عبد الله(ع) قال: «كان عليّ بن الحسين(عما) يقول: ما تجرَّعت جرعة غيظ قطّ أحبّ إليَّ من جرعة غيظ أعقبها صبراً، وما أحبّ أنّ لي بذلك حمر النعم. قال: وكان يقول: الصدقة تطفئ غضب الربّ. قال: وكان لا تسبق يمينه شماله. قال: وكان يقبِّل الصدقة قبل أن يعطيها السائل، فقيل له: ما يحملك على هذا؟ قال: فقال: لستُ أقبِّل يد السائل، إنّما أقبل يد ربّي، إنّها تقع في يد ربّي قبل أن تقع في يد السائل».
([2]) رواه عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد: 117، عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول الله(ص): «داووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا أبواب البلاء بالدعاء، وحصِّنوا أموالكم بالزكاة، فإنّه ما يصاد ما صيدٍ من الطير إلاّ بتضييعهم التسبيح».
ورواه الكليني في الكافي 4: 3، عن عليّ بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن عبد الله بن القاسم، عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله(ع): «داووا مرضاكم بالصدقة، وادفعوا البلاء بالدعاء، واستنزلوا الرزق بالصدقة؛ فإنها تفك من بين لحى سبعمائة شيطان، وليس شيءٌ أثقل على الشيطان من الصدقة على المؤمن، وهي تقع في يد الربّ تبارك وتعالى قبل أن تقع في يد العبد».
ورواه الصدوق في ثواب الأعمال: 139، عن محمد بن عليّ ماجيلويه، عن محمد بن أحمد، عن الحسن بن الحسين، عن معاذ بن مسلم بيّاع الهروي قال: كنتُ عند أبي عبد الله(ع)، فذكروا الوجع، فقال: «داووا مرضاكم بالصدقة، وما على أحدكم أن يتصدَّق بقوت يومه، إنّ ملك الموت يرفع إليه الصكّ بقبض روح العبد فيتصدَّق فيقال له: ردَّ عليه الصكّ».
([4]) رواه الكليني في الكافي 1: 54، عن الحسين بن محمد، عن معلّى بن محمد، عن محمد بن جمهور العمي، مرفوعاً.
([6]) رواه المفيد في الأمالي: 227 ـ 228، و292، عن أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه، عن محمد بن عبد الله بن جعفر الحميري، عن أبيه، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن زياد قال: سمعتُ جعفر بن محمد(عما)، وقد سُئل عن قوله تعالى: ﴿فَللهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾، فقال: إنّ الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: عبدي أكنتَ عالماً؟ فإنْ قال: نعم قال له: أفلا عملْتَ بما علمْتَ؟ وإنْ قال: كنتُ جاهلاً، قال له: أفلا تعلَّمت حتَّى تعمل؟ فيخصمه، فتلك الحجّة البالغة لله عزَّ وجلَّ على خلقه.