3 مايو 2014
التصنيف : حوارات
لا تعليقات
6٬324 مشاهدة

تجسيد الأنبياء في المسلسلات الدينية، حلالٌ أم حرام؟

angels1

حوارٌ أجرَتْه الطالبة الجامعية والباحثة ألمى حسّون

مع سماحة الشيخ محمد عبّاس دهيني

بتاريخ: 24 ـ 4 ـ 2014م

تحيّة طيّبة…

أُعِدُّ تحقيقاً صحفيّاً لجامعة ويسمنستر البريطانيّة كجزءٍ من دراستي للماجستير في الإعلام. أشكركم جزيلاً للموافقة على الإجابة عن أسئلتي المرفقة:

يعرض حاليّاً في دُور العَرْض بأوروبا وأميركا فيلم (نوح)، المقتبس عن سيرة النبيّ نوح، لكنْ من وجهة نظر المخرج الذي يطرح فكرة علاقة الإنسان بالبيئة والأرض أكثر من كونها سيرة نبيّ. علماً أنّ المخرج اعتمد على الإنجيل والتوراة فقط كمصادر أساسيّة. ما الحكم الشرعي لتصوير الأنبياء عموماً، علماً أنّها ليست المرة الأولى التي يتمّ فيها عرض أفلام أو مسلسلات تقصّ سِيَر الأنبياء، ومن إنتاج دول عربيّة أو إسلاميّة؟

بعيداً عن حكم التحريم الذي سطَّره الفقهاء لتجسيم ونحت ذوات الأرواح كاملةً؛ خوفَ عبادتها من دون الله، علماً أنّ كثيراً من المجسَّمات اليوم لا يُتصوَّر أنْ تتحوَّل إلى معبودٍ للناس.

وبعيداً عن حكم التحريم لتصوير ذوات الروح كاملةً من خلال الرسم أو التلوين، الذي أصدره بعض الفقهاء، بينما ذهب آخرون إلى حِلِّيَّته.

وبعيداً عن حكم القليل الشاذّ من العلماء بحرمة التصوير الفوتوغرافيّ، إلاّ لضرورةٍ، في حين ذهب جمهورُ الفقهاء إلى جوازه وإباحته.

بعيداً عن ذلك كلِّه فإنَّه في موضوع إنتاج مسلسلات أو أفلام تتمحور حول سيرة الأنبياء والمرسلين أو الأئمّة المعصومين أو الصحابة المنتجَبين يقع الكلام في مطالب:

الأوّل: في حكم التمثيل ومحاكاة أحداث الأمم السالفة.

وهُنا قد يُقال: إنّ هذا الفنّ إنَّما هو من بنات أفكار الغرب الكافر، ولم يكن معروفاً في المجتمعات الإسلاميّة، وبالتالي لا يجوز لنا ممارسته، والترويج له.

ويُجاب عن ذلك بأنّه ليس كلُّ ما يرِدُنا من بلاد الكفر حرامٌ وقبيح، فكم من الأمور التي استوردناها منهم ولا يشكّ مسلمٌ في حِلِّيَّتها، كالكهرباء، والسيّارات، والأدوية الحديثة المركَّبة…، والقائمة تطول!

الثاني: في حكم تشبُّه النساء بالرجال، والرجال بالنساء.

ويحكم بعض الفقهاء بحرمة تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، في اللباس تحريماً مطلقاً، في صورة الجِدّ والهَزْل، ومنه ما يقع في عمل التمثيل أحياناً.

والجواب عن ذلك: أوّلاً: إنّ هذا الشيء قليلٌ، بل نادرٌ، في عمل التمثيل الحاكي لسيرة الأنبياء(عم) والأئمّة(عم) والصحابة(رض)؛ إذ مع وجود المرأة والرجل فلا داعي لتشبُّه أحدهما بالآخر.

وثانياً: ليس المراد من النهي الوارد في الروايات ـ وكلُّها ضعيفةٌ سنداً ـ عن تشبُّه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، أن يتشبَّه أحدهما بالآخر في اللباس، وإنَّما المنهيُّ عنه أن يتأنَّث الرجل باللِّواط، وتتذكَّر المرأة بالسِّحاق.

الثالث: في حكم اختلاط النساء بالرجال، والخَلْوة بين الرجل والمرأة، وملامسة أحدهما للآخر، أو الكَوْن معه في وضعيّةٍ خاصّة.

أمّا اختلاط النساء بالرجال فليس محرَّماً في حدِّ ذاته، ما لم يُفْضِ إلى فعلٍ حرام:

1ـ كالخضوع بالقول ـ أي الميوعة والدَّلال والغَنْج ـ ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌمن الرجال بممارسة الرذيلة والفحشاء والمنكَر مع هذه المرأة.

2ـ وكإبداء الزينة للطرف الآخر بما يثير شهوته وغريزته نحو المتزيِّن، فينجرَّ ذلك إلى:

أـ الكلام الحرام، كالتَّشْبيب والتَّغزُّل بالمرأة المتزوِّجة، والمزاح الخارج عن حدِّ المألوف، الذي يستهدف كَسْر الحاجز النفسيّ والاجتماعيّ بين الرجل والمرأة، وصولاً إلى علاقةٍ ممنوعة ومكروهة.

ب ـ النظر الحرام، وهو النظر إلى ما لا يحقّ للرجل أن ينظر إليه من المرأة الأجنبيّة عنه، وهو كلُّ جسدها، ما عدا الوجه والكفَّيْن. كما يحرم عليه الإمعان في النظر إلى الوجه والكفَّيْن بشهوةٍ.

ومن إبداء الزينة أيضاً أنْ تتعطَّر المرأة بعطرٍ فوّاح يشُمّه الرجل فتهيج شهوتُه، ويرغب في علاقةٍ سريعة عابرة مع المرأة المتعطِّرة.

3ـ وكالخَلْوة بين الرجل والمرأة في مكانٍ لا يدخل عليهما فيه أحدٌ؛ إذ لا يؤمَنُ حينها من انجرارهما إلى الفاحشة.

4ـ وكملامسة أحدهما للآخر، ولو عبر المصافحة، فإنَّه لا يجوز للرجل أن يلمس أيّ عضوٍ من المرأة إلاّ من وراء الثياب، ودون غمزٍ، أي دون ضغطٍ، يجعله في معرض التعرُّف على حَجْمه؛ إذ هو مدعاةٌ لإثارة الشهوة، ومقدِّمةٌ غالبةٌ للانحراف.

5ـ وكأنْ يكون الرجل والمرأة في وضعيّةٍ خاصّة تُغْري بالفحشاء والمنكَر، كنومهما في فراشٍ واحد، أو عناقهما، أو…

وخلاصة الكلام: إنَّه ينبغي تجنُّب ما ذُكر من المحرَّمات والمحظورات، ولا مشكلة في الاختلاط حينئذٍ.

الرابع: في حكم أداء أدوار الكفّار، وما يقتضيه من محاكاة أفعالهم، والنطق بألفاظهم، التي تتضمَّن كفراً صريحاً، وإهانةً للمقدَّسات، واستهزاءً بالأنبياء، وانتقاصاً من كرامتهم.

وهنا يقول بعض العلماء بالتحريم؛ لما تستلزمه هذه المَشاهد من إساءةٍ للمقدَّسات.

ولكنّ الصحيح أنّه إذا كان الإنتاج ناجحاً ـ وينبغي أن يكون كذلك، وينبغي التأكُّد من ذلك قبل الشروع في العمل التمثيليّ ـ فإنَّه سوف يستعرض هذه المَشاهد ويُتْبِعُها بما يزيل أيَّ صورةٍ سلبيّة يمكن أن تتشكَّل في أذهان المُشاهدين عن الدِّين ورموزه.

وأمّا النطق بكلمات الكفر ونحوها فإنَّه لا يعدو كونه مجرَّد لقلقة لسانٍ لا يُراد مضمونُها إرادةً جِدِّيَّة، فلا يُصار إلى القول بحرمتها.

الخامس: في حكم تجسيد شخصيّة النبيّ(ع) أو الإمام(ع) أو الصحابيّ(رض) من قِبَل ممثِّلٍ محترِف.

يقولون: إنّ تجسيد شخصيّة النبيّ(ع) أو الإمام(ع) أو الصحابيّ(رض) من قِبَل ممثِّلٍ محترِف مكشوف الوجه يؤدِّي إلى تشوُّه صورة تلك الشخصيّة المقدَّسة في أذهان الناس؛ إذ لا يؤمَن، بل هذا هو الحاصلُ فِعْلاً، أنْ يكون هذا الممثِّل قد أدى دَوْراً تمثيليّاً لشخصيّةٍ فاسدة أو منحرفة، وقام بأعمالٍ مُشينة، أو يقوم بذلك في مستقبل الأيّام، فتتداخل هاتان الصورتان له في ذهن المُشاهِد، بما يؤدِّي إلى الانتقاص والهَوان في صورة النبيّ(ع) أو الإمام(ع) أو الصحابيّ(رض) في مخيِّلة المُشاهِدين.

والجواب عن ذلك: أوّلاً: إنّه ليس لهذه الدعوى صدىً يُذكَر عند متذوِّقي الفَنّ، بل عند الغالبيّة العُظْمى من الناس، فهم يُدركون أنّ ما يقوم به هذا الممثِّل ما هو إلاّ دَوْرٌ تمثيليّ ينتهي بانتهاء هذا المسلسل أو الفيلم. ولهذا نجدهم يمجِّدون هذا الممثِّل أو ذاك، ويشجِّعونه، ويتابعون أعماله، رغم أنَّه قد أدّى دَوْراً مخالِفاً لرغباتهم ومبادئهم.

وثانياً: إذا صحّت هذه الدعوى فيمكن التخلُّص من هذه المشكلة بأحد وجهَيْن:

أـ إخفاء وجه الممثِّل الذي يجسِّد شخصيّةً مقدَّسة، بعدم إظهار صورتهم أصلاً، كما حصل في فيلم (الرسالة)، حيث لم تظهر صورة النبيّ(ص)، والخلفاء الأربعة من بعده، وكما في مسلسلَيْ (الإمام عليّ(ع))، و(الإمام الحسن(ع))، اللذين أنتجتهما السينما الإيرانيّة؛ أو بوضع هالةٍ من النور على وجهه، وقد حصل هذا كثيراً في المسلسلات الإيرانيّة، كـ (مريم المقدَّسة)، و(غريب طُوس). في حين ظهرت وجوهُ بعض الأنبياء(عم) في مسلسلات أخرى، كـ (يوسف الصِّدِّيق).

ب ـ أنْ يؤدِّي دورَ الشخصيّات المقدَّسة ممثِّلون هواةٌ، ولكنَّهم بارعون في التمثيل، فيقصرون عملهم التمثيليّ على أداء هذه الأدوار. وبالتالي لن يكون لهم مشاهدُ وصورٌ قبيحة في أذهان الناس، تنعكس سَلْباً على صورتهم في تجسيد شخصيَّة المقدَّسين.

غير أنّه تجدر الإشارة هنا إلى أنّه لا بُدَّ من تحرّي الدِّقَّة الكاملة في تحديد أوصاف أجسام ووجوه هؤلاء المقدَّسين؛ ليتمَّ تصويرُهم بما كانوا عليه واقعاً من الجَمال والبَهاء والهَيْبة، فيكون لحضورهم الأثر الفاعل في النفوس. وهذا عملٌ في غاية الصعوبة، ولا سيَّما بعد اختلاف ما ذُكر من أوصافهم في كتب التاريخ والأخبار.

السادس: في حكم استعراض أحداثٍ كثيرة ومشاهدَ متعدِّدةٍ على أنَّها حصلَتْ فِعْلاً في غابر الأزمان.

وهنا ينبغي لكاتب السيناريو وفريق الإنتاج أن يتواضَعُوا قليلاً. فكما لا يحقُّ لعلماء الدِّين أنْ يتدخَّلوا في ما لا اختصاص لهم فيه، كالطِّبّ، والهندسة، والتصوير والتمثيل، فكذلك يجب على كُتَّاب هذه المسلسلات والأفلام أن يلجأوا إلى علماء الدِّين المحقِّقين والمختصِّين بشؤون السيرة والتاريخ؛ لكي يقدِّموا لهم الثابت والصحيح من أحداث الحِقْبة التي يتحدَّث عنها العمل التمثيليّ، وذلك بحسب ما أوصَلَتْهم إليه تحقيقاتُهم. وعند تعارض العلماء يُكتفى بالمقدار المتيقَّن المُجْمَع عليه؛ إذ إنَّ نقلَ غير الثابت من تلك الأحداث ما هو إلاّ كَذِبٌ صُراح. وهنا قد يُعاني الكاتب والمُخرِج والمُنتِج من نقصٍ في المعلومات، ما يجعل القصّة قصيرةً، والعمل التمثيليّ صغيراً متواضعاً. ولكنَّه خيرٌ من اختراع أحداثٍ ومشاهد لا دليل على وقوعها، فتعلَق في أذهان الناس على أنَّها هي ما حصل لا غير. وهذا ما لمسناه جَلِيّاً في أكثر من مسلسلٍ، حيث لا يرتاب كثيرون في أنَّ كلَّ ما ورد في مسلسل (يوسف الصدّيق) هو أحداثٌ واقعيّة، وثابتةٌ عند المحقِّقين، في حين أنَّ كثيراً من تلك الأحداث لا دليلَ على وقوعها.

وخلاصة الكلام: إنَّه لا دليل تامّاً على حرمة إنتاج المسلسلات والأفلام الدينيّة، وترويجها، واقتنائها، ومشاهدتها.

كما لا يحرم تجسيد شخصيّة النبيّ(ص) وسائر الأنبياء والمرسلين(عم) والأئمّة المعصومين(عم) والصحابة المنتَجَبين(رض) من قِبَل ممثِّل هاوٍ وبوجهٍ مكشوف.

كلُّ ذلك ما لم يؤدِّ إلى فعلٍ حرام، كالذي تقدَّمت الإشارة إليها.

وبالعودة إلى موضوع السؤال فإنَّ المصدر الشرعيّ الوحيد لسيرة نبيّ الله نوح(ع) هو ما جاء في القرآن الكريم من أحواله وتفاصيل حياته، وما ورد في الأخبار الصحيحة عن النبيّ(ص) وأهل بيته(عم).

وعليه فبالنسبة إلى تجسيد شخصيَّته وإظهار وجهه هو أمرٌ جائزٌ، بشروطه التي تقدَّمت.

وأمّا بالنسبة إلى الأحداث التي تُذكر في الفيلم فلا بُدَّ من أن تكون واردةً في القرآن أو الأخبار الصحيحة، فيكون تصويرُها حلالاً. وأمّا ما عدا ذلك، ممّا لم تثبُتْ واقعيَّتُه، فلا يجوز استعراضُه. مع الإشارة إلى أنّ ما جاء في التوراة والإنجيل من قصّة نبيّ الله نوح(ع) قد طالَتْه يدُ التحريف، فلا يُطمأنُّ بعد ذلك بواقعيَّته، ويُخشى مع ذلك من كونه مادّةً للانحراف العَقْديّ لكثيرٍ من الناس المتديِّنين.

هل هناك اختلافٌ بين فِرَق الإسلام حول هذا الموضوع (تصوير الأنبياء)؟ وما هو هذا الاختلاف إنْ وجد؟

تقدَّم أنَّ بعض العلماء السُّنَّة يحرِّمون تصوير المسلسلات الدينيّة عموماً؛ لعدم خُلُوِّها من محظورٍ شرعيّ.

وأجمع علماء السُّنَّة على تحريم تجسيد دور الأنبياء والصحابة بوجهٍ مكشوف؛ لما يتضمَّنه ذلك من إساءةٍ لشخصيّتهم.

وذهب بعض العلماء السَّنَّة إلى حِلِّيَّة التجسيد بشرط عدم ظهور الوجه. ووافَقَهم في ذلك بعضُ العلماء الشيعة.

في حين ذهب علماءٌ شيعة آخرون إلى جواز تجسيد دور الأنبياء والأئمّة والصحابة ولو بوجهٍ مكشوف، إذا لم يؤدِّ ذلك إلى انتقاصٍ وسخرية واستهزاء وهتك لحُرْمَتهم. وقد تقدَّم أنّ هذا ممكنٌ بشروطٍ يجب على الكاتب والمُنتِج والمُخرِج الالتزام بها.

3ـ سيُعرَض الفيلم في لبنان. ما تعليقكم؟ هل ستشاهدونه؟ ولماذا؟

إذا عُرِض الفيلم في لبنان، وتسنَّتْ لي مشاهدتُه، فأنا ـ بصفتي من أهل العلم والتحقيق ـ لن أتردَّد في حضوره. وسأعمل جاهِداً للإحاطة بكلِّ ما يستعرضه من مَشاهد وأحداث؛ لتأكيد ما هو الثابت منها، ونَقْد وتصحيح ما هو مورد بحثٍ ونقاش، أو ما كان كَذِباً وافتراءً.

ولكنِّي لا أُشجِّع المؤمنين والمؤمنات، ممَّنْ ليست لديهم هذه القدرة على التمييز بين الغَثّ والسمين، على حضوره؛ إذ ربما كان مادّةً لضلالهم وانحرافهم في ما يجب أن يعتقدوه في الأنبياء(عم).

أصدر الأزهر في مِصْر بياناً رافضاً لعَرْض الفيلم. ويدور الآن جَدَلٌ في المجتمع بين مثقَّفين وفنّانين يطالبون بحقّ عرض الفيلم كمنتَج فنّيّ وبين دعاة إلى مقاطعة الفيلم، وصلت أحياناً ـ كما نقلت بعض وسائل الإعلام الإلكترونيّة ـ إلى التهديد بحرق دُور العَرْض. ما تعليقكم؟ وهل تعتقدون أنّه:

أـ في عصر التكنولوجيا الذي نحن فيه (توافر الإنترنت وأفلام على أقراص ليزريّة) هل يمكن منع الناس من مشاهدة فيلم بإصدار حكمٍ دينيّ ـ إسلاميّ، أم أنّ هذا واجب المؤسَّسة الدينيّة مهما كانت الظروف؟

في عصر التكنولوجيا قد لا يكون للمنع تأثيرٌ واقعيٌّ، بمعنى أنّه لن يكون لمنع المؤسَّسة الدينيّة، سواءٌ في مصر أو العراق أو إيران أو أيِّ مكان آخر، من تأثيرٍ واسع النطاق. فقديماً عندما ترفض مؤسَّسةٌ دينيّة فيلماً، وتضغط على الحكومة لمَنْع الترويج له في دُور العَرْض، فإنَّه سيغيب عن المشهد الثقافيّ والإعلاميّ والفنّيّ في ذاك البلد. وأمّا اليوم فإنَّ توافر هذا الفيلم أو المسلسل على المواقع الخاصّة بأمثاله، مع سهولة الدخول إليها عبر الإنترنت السريع، فإنَّ هذا يعني أنَّ هذا العمل سيكون في متناول كلِّ الناس، شاء مَنْ شاء وأبى مَنْ أبى.

نعم، يبقى للوازع الدينيّ دورَه الكبير في الامتناع الطوعيّ لكثيرٍ من المتديِّنين عن مشاهدة هذا العمل؛ استناداً إلى الفتوى الملزِمة للمؤسَّسة الدينيّة بتحريمه.

ب ـ في ظلِّ أوضاع سياسيّة حَرِجة، كالتي تمرّ بها مصر، ألا تتسبَّب بعض البيانات الدينيّة حول مواضيع ثقافيّة، مثل هذا الفيلم، بتوتير وشحن المجتمع، أم مرّةً أخرى هذا واجب المؤسَّسة الدينيّة مهما كانت الظروف؟

إنَّ الحفاظ على المجتمع من أن تعبث به أيادٍ مشبوهةٌ، وتنتشر فيه أفكارُ الانحراف العَقْديّ، لهو من واجبات المؤسَّسة الدينيّة الأساس.

ومن هنا فنحن نؤيِّد المؤسَّسة الدينيّة في مراقبتها لهذه الأعمال التمثيليّة، فما وجدَتْه خالياً من أيِّ إشكالٍ تسمح به، وما تضمَّن انحرافاً مَنَعَتْه.

ولكنَّنا نرى أنّ على المؤسَّسة الدينيّة أن تكون في تواصلٍ دائم مع الناس، تنقل إليهم سَيْر التحقيق في مثل هذه الموضوعات، ليكون الناسُ على بيِّنةٍ من أمرهم، ويكونوا عَضُداً لهذه المؤسَّسة في مَهَمَّتها الشريفة.

كما ينبغي على المؤسَّسة الدينيّة أن تتخفَّف من كثيرٍ من القيود والشروط التي لم يقُم دليلٌ مُعتَبَر عليها، الأمر الذي يفوِّت الفرصة على مَنْ يستهدفون هذه المؤسَّسة بالإساءة، والرَّمْي بالتخلُّف والرجعيّة وعدم التحضُّر.

5ـ ما حكم تصوير الملائكة أيضاً، حيث صُوِّرت في الفيلم ككائناتٍ حجريّة متعدِّدة الأذرع تساعد النبيَّ نوح في بناء السفينة…؟

الملائكة مخلوقاتٌ لطيفة، أولو أجنحةٍ؛ يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿الحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلاَئِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فاطر: 1).

وهُمْ في كلِّ حركاتهم وسكناتهم يلتزمون أوامرَ الله عزَّ وجلَّ؛ ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنبياء: 26 ـ 27).

وقد افترى البعضُ كَذِباً وزُوراً فادَّعَوْا أنَّ الملائكة إناثٌ. وهذا ما خطّأَتْه آياتٌ قرآنيّة عديدة:

﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ المَلاَئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً﴾ (الإسراء: 40).

﴿فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ البَنَاتُ وَلَهُمْ البَنُونَ * أَمْ خَلَقْنَا المَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ (الصافّات: 149 ـ 150).

﴿وَجَعَلُوا المَلاَئِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ (الزخرف: 19).

﴿إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الحَقِّ شَيْئاً﴾ (النجم: 27 ـ 28).

وهكذا ينكشف الخطأُ في تصوير الملائكة في بعض الرسوم واللوحات الفَنِّيّة بصورة إناثٍ تُحَلِّق بجناحَيْن أو أكثر.

وليس الملائكةُ من الكائنات الحَجَريّة في شيءٍ، بل إنَّ لهم عالَمَهم الخاصّ، الذي لن نُدْرِك كُنْهَه بعقولنا القاصرة. وإنَّما نعرف عنهم ما عرَّفنا إيَّاه خالقُهم، في ما ذكره في القرآن الكريم، أو ورد في الروايات الصحيحة، والمصادر التاريخيّة الموثوقة، من أحوالهم وصفاتهم.

وقد حدَّثَنا الله سبحانه وتعالى عن تمثُّل الملائكة بصورة الآدميّين في قصّة عذاب قوم نبيِّ الله لوط(ع)، حيث دخلت الملائكة على نبيِّ الله إبراهيم(ع)، وهو النبيُّ من أولي العَزْم، وصاحبُ الشريعة في ذلك الزمان، والنبيُّ لوط(ع) من أتباعه، فحَسِبَهم إبراهيم(ع) ضيوفاً قد نزلوا بفِنائه، فجاءهم بطعامٍ، فلمّا لم تمتدَّ أيديهم إليه أحسّ بشيءٍ من الرهبة، فطَمْأنوه، وأخبروه بسبب زيارتهم. وكذلك فعلوا مع النبيّ لوط(ع)، حيث ضاق بقومه ذَرْعاً، وهو يرُدُّهم عن غِيِّهم، ويمنع ضيوفَه من عُدوانهم، فتمنَّى لو أنَّ له قوّةً أو عشيرة تحميه وضيوفَه من هجومهم وفسادهم هذا، فأخبره الملائكة بهَوِيَّتهم، وسبب مجيئهم. يقول عزَّ من قائلٍ: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * …وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ * وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاَءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ * قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ * قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ * قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ…﴾ (هود: 69 ـ 81).

ويُقال: إنَّ جبرئيل عندما كان ينزل على رسول الله الأكرم محمد(ص) كان يتمثَّل أحياناً بصورة دِحْيَة الكلبيّ.

وبناءً على هذا يجوز تصويرُ الملائكة بصورةِ الآدَمِيِّين، لكنْ بما لا يتنافى مع قُدْسِيَّتِهم وكرامتهم وطهارتهم وعِفَّتهم. فلا يصحُّ تصويرُهم بصورة الإناث العاريات المحلِّقات فوق رؤوس الرجال، أو ما شابه ذلك من الصور المسيئة لهؤلاء المطهَّرين.

ولكم جزيل الشكر والاحترام

ألمى حسُّون          



أكتب تعليقك