29 أبريل 2016
التصنيف : مقالات عقائدية، منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬842 مشاهدة

البعثة النبويّة الشريفة، مفاهيم ودلالات

2016-04-29-منبر الجمعة#مقابلة المبعث-البعثة النبوية الشريفة، مفاهيم ودلالات

 (الجمعة 29 / 4 / 2016م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

النبيّ الأكرم(ص) والاعتزال في غار حراء

يقول الإمام عليّ(ع): «أرسله ـ يقصد رسول الله(ص) ـ على حين فترةٍ من الرسل، وطول هجعة من الأمم، واعتزامٍ من الفتن، وانتشار من الأمور، وتلظٍّ من الحروب، والدنيا كاسفة النور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرارٍ من ورقها، وإياسٍ من ثمرها…»([1]).

ومن الواضح والمعروف ما كانت عليه أمّة العرب، بل وسائر الأمم، عند البعثة النبويّة الشريفة، من اضطرابٍ في الفكر، وخللٍ في السلوك.

فمن عبادة الأوثان والنِّيران، والشجر والبقر، إلى عاداتٍ اجتماعيّة في غاية القُبْح، وانتهاك حقوق الإنسان، كوَأْد البنات، والرِّبا، والتبنِّي، واستعباد الناس؛ لأتفه الأسباب.

ويكفينا في تسليط الضوء على حال المجتمعات وتخلُّفها آنذاك أن نتذكَّر أنّ حرباً ضروساً قد قامت بين قبيلتين، واستمرَّت لعقودٍ من الزمن؛ بسبب نتيجةٍ في سباق خَيْلٍ.

في مجتمعٍ كهذا لا بُدَّ للشخص المنفتح على الله، الخالق العالم القادر، أن يلجأ ويتقرَّب إليه، بالمناجاة والذِّكْر؛ ليستعين به على مواجهة كلِّ هذا الواقع المنحرف.

وهذا ما قام به النبيُّ(ص)، حيث كان يخلو بنفسه في غار حراء، في أطراف مكّة، حيث يقوم بذكر الله ومناجاته والابتهال إليه؛ ليجعل له من أمره فَرَجاً ومخرجاً.

لقد كان(ص) يعيش همَّ إخراج الناس ممّا هُمْ فيه من جهلٍ وتخلُّف في الفكر والعقيدة والعمل، وانحطاطٍ خُلُقيّ، ممّا هُمْ فيه من الظلمات يغشى بعضُها بعضاً، إلى نور العلم والحقّ والهُدى والقِيَم والأخلاق.

ومن هنا كان أوّل ما نزل عليه؛ ليبلِّغه للناس، قولَه تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ (العلق: 1 ـ 2). اقرأ أيُّها الإنسان وتفكَّر في صفات الله جيِّداً، تصل إلى العقيدة الصحيحة، والشريعة القويمة، والأخلاق الفاضلة.

إذن الرسالةُ الإسلاميّة الخاتِمة إنّما هي تجلٍّ لرحمة الله عزَّ وجلَّ بخَلْقِه كلِّهم، على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم، فقال اللهُ عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 107). وأكَّد ذلك النبيُّ(ص) بقوله: «إنّما بعثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق»([2]).

هذا وقد بعث النبيّ الأكرم محمد(ص) على فترةٍ وانقطاعٍ من الرُّسُل، حيث يقول تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (المائدة: 19). نعم لم تنقطع النُّذُر، والحجج؛ لقوله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ (فاطر: 24).

النبيُّ المصطفى(ص)

لم تتعلَّق إرادةُ الله ومشيئته في أن يبعث إلى الناس ملائكةً رُسُلاً وأنبياء، وإنَّما أراد أن يكون الأنبياء والرُّسُل من البشر أنفسهم. لكنَّه اصطفى من البشر أفراداً وجماعاتٍ؛ لما يعلمه ـ وهو الخلاّق العليم ـ من طهارتهم وصفائهم وفضلهم.

وهذا ما يؤكِّده قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 33).

ورسولُ الله الأكرم محمد(ص) هو من ذرِّيّة خليل الله إبراهيم(ع)، من ولده إسماعيل(ع).

إذن الله سبحانه وتعالى يختار من البشر مَنْ تتوفَّر فيه صفات الحُسْن المعنوي، والجمال الروحي، فيجعله في مصافّ المصطَفَيْن الأخيار.

وهذه الصفات مقدورةٌ لكلِّ الناس، ولكنَّها تحتاج إلى مجاهدة النفس الأمّارة بالسوء. وأهمُّ عدّةٍ مطلوبة لهذا الجهاد هو معرفة الله. وجميع الأنبياء ـ ومنهم نبيُّنا الأكرم محمد(ص) ـ كانوا يتوسَّلون شتَّى الطرق لبلوغ القِمّة والكمال في هذه المعرفة، فإذا عرفوه وحَّدوه وعبدوه وأطاعوه وكرهوا معصيتَه. فهم ينفرون من المعصية ويفرُّون منها فرار الإنسان السويّ من الأسد، أو المَرَض، أو الجيفة القَذِرة النَّتِنة.

وعليه فالعِصْمة ليست قهريّةً، وإلاّ لما استحقّ عليها ثواباً، وإنَّما هي إراديّةٌ بشكلٍ كامل. وترتكز على صفاتٍ ومؤهِّلات شخصيّة، قد أحاط الله بها علماً قبل ظهورها للناس، فيختار الأنبياء والرُّسُل والأوصياء على أساسها.

ومن تلك الصفات والمؤهِّلات مثلاً: عشق الخير للناس كافّةً، وطلب الإصلاح في العالَمين.

كيف نختار قادتنا؟

إنّ عقيدتنا بأنّ الله حكيمٌ، يضع الأمور في مواضعها، تُنتج أنّ ما فعله عزَّ وجلَّ في اختياره واصطفائه لبعض البشر على أساس مؤهِّلاتٍ يتمتَّعون بها هو فعلٌ حكيم. وتشير إلى ذلك الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (الأنعام: 124).

وبما أنّ هذا الاختيار حكيمٌ ينبغي أن يُعتَمَد ويُتَّبَع في اختيار البشر لقيادتهم.

فاختيار النبيّ والوصيّ (الإمام)(ع) بيد الله، وليس للناس أن يتدخَّلوا في ذلك. وأمّا اختيار القادة ـ غير المعصومين ـ في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد أو… فهو بيد الناس. وعليهم أن يختاروا مَنْ تتوفَّر فيه صفات الكمال البشريّ، ولو في بعض مراتبها، كالعلم والمعرفة، والصبر والحكمة، والشجاعة والرحمة، وحبِّ الخير والإصلاح، والزهد والتواضع.

وهكذا نفهم أيضاً ما بيَّنه النبيُّ(ص) في أكثر من مناسبةٍ، وهو يشير إلى ما دعاه لاختيار أمير المؤمنين عليٍّ(ع) للإمامة من بعده، بأمرٍ من الله عزَّ وجلَّ، فكان يقول: «أعلمكم عليّ بن أبي طالب»([3])، «أقضاكم عليّ»([4]).

وهكذا نفهم لماذا كان عليٌّ(ع) يصف نفسه للناس فيقول: «ألا وإنّ إمامَكُم قد اكتفى من دنياه بطِمْرَيْه، ومن طعمه بقُرْصَيْه. ألا وإنَّكُم لا تقدرون على ذلك، ولكنْ أعينوني بوَرَعٍ واجتهاد، وعفّةٍ وسداد»([5]).

وهكذا كان النبيُّ(ص) يعيش قِمّة التواضع لله، وللناس، حتَّى «أتاه رجلٌ، فكلَّمه، فجعل ترعد فرائصه، فقال له: «هوِّنْ عليكَ؛ فإنّي لستُ بمَلَكٍ، إنّما أنا ابنُ امرأةٍ تأكل القديد»([6]).

وهكذا «لقي أميرَ المؤمنين(ع) عند مسيره إلى الشام دهاقينُ الأنبار، فترجَّلوا له، واشتدّوا بين يدَيْه، فقال: ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منا نعظِّم به أمراءنا، فقال: واللهِ، ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنّكم لتشقّون به على أنفسكم في دنياكم، وتشقَوْن به في آخرتكم. وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدَّعة معها الأمان من النار»([7]).

اللحظات الأولى للبعثة بين الواقع والأسطورة

نقرأ في بعض الروايات التي تتحدَّث عن تفاصيل اللحظات الأولى للبعثة، وما يورده البعض من أخبار عن حال النبيّ(ص) بعد أن نزل الوحي عليه للمرّة الأولى، عن الاضطراب والرُّعب الذي اعتراه، إلى جانب عودته إلى زوجته خديجة(عا)، وهو جاهلٌ بما يحدث معه…([8]). فهل تنسجم هذه الصور مع مفهومنا للنبيّ المعصوم؟! وهل يعقل أن يبعث الله محمداً(ص) رسولاً ويتركه في هذه الحال من التخبُّط؟!

الواقع أنّ تلك قصصٌ غريبة، وبعيدة عن الواقع تماماً. وحجّتُنا في ذلك عدّةُ أمور:

أـ لغة الخطاب الأوّل ليست لغة التهديد والوعيد، وإنَّما هي لغة اللُّطف والعَطْف، لغةٌ ملؤها الحُبّ والرعاية: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ (العلق: 1 ـ 5)، فلماذا الخوف والارتباك؟

ب ـ إنّ النبيّ(ص) لا يلجأ إلى أحدٍ لطمأنته، فهو لم يرتَدْ كُتّاباً، ولم يذهب إلى معلِّم، من قبلُ، فكيف بعد أن تكفَّل الله بتعليمه؟! وهذا ما يؤكِّده قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ (العنكبوت: 48).

ج ـ لو أنّ النبيّ(ص) كان قد راجع ورقة بن نوفل أو غيره في أمر صحّة الرسالة لاحتجّ عليه المشركون بأنّه هو نفسه لم يكن ليصدِّق ما سمع من الوحي، فكيف يدعوهم إلى تصديقه؟!

وأمّا قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ (المدثر: 1)، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ﴾ (المزمل: 1)، فالظاهر أنّ المراد به ـ كما كان يقول أستاذنا المرجع فضل الله(ر) ـ المعنى الكنائي لهاتين الكلمتين([9])، في ما يمثِّله التدثُّر والتزمُّل من حالة راحةٍ ودَعَة واسترخاء. فكأنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول للنبيّ(ص): انقضى وقت الراحة، وولّى زمن الاسترخاء. انهَضْ لتحمُّل أعباء المسؤولية في الدعوة إلى الله، وبيان العقيدة، وتبليغ الأحكام، والمواجهة لأعداء الدين الحنيف.

وأمُّ المؤمنين خديجة(عا) امرأةٌ صالحة، وتعرف صِدْق زوجها، بل يعرف ذلك كلُّ الناس في مكّة، فقد كانوا يلقِّبونه بـ «الصادق الأمين». ومن هنا أسرعت(عا) للإيمان برسالته؛ لمعرفتها بشخصيّة النبيّ(ص) وصدقه وأمانته. ولا يُتصوَّر في حقِّها(عا) أن تَدْعوه لسؤال هذا أو ذاك من الناس.

الوحيُ الإلهيّ الأوّل دعوةٌ إلى التأمُّل والتدبُّر

لقد خوطِب(ص) بـ ﴿اقْرَأْ﴾، فماذا يقرأ؟ وهل كان يمتلك كتاباً بين يدَيْه آنذاك؟

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾: فباستيحاء هذه الصفة الإلهيّة وهي الخَالقيّة ينطلق(ص) في قراءةٍ شاملة للكون كلِّه. إذن هي دعوةٌ إلى التفكُّر في أحوال الخلائق، ليتعرَّف على عظمة الله، وبديع صنعه، وكمال نعمته.

ثمّ خوطب مجدَّداً: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. فالله هو العالم بكلِّ شيءٍ، والمعلِّم والهادي إلى ما ينفع الناس وما يضرّهم. إذن هي القراءة في كتاب التشريع الصادر من الله جلَّ جلاله.

اقرَأْ لتعرف أنّه القادر على كلِّ شيءٍ، وأنّه يرفع درجاتٍ مَنْ يشاء، وقد أهلك عاداً وثمود وفرعون وقارون ونمرود، فما أبقى. إذن لا تخَفْ فإنَّك أنت الأعلى.

اقرَأْ لتتزوَّد روحيّاً، وتعيش الاتِّكال على الله وحدَه، وتطلب العون منه دون غيره.

فكِّرْ، استمِعْ، اتْلُ ما أوحي إليك من ربِّك؛ ليعلم الناس كافّةً أنّ الدين ليس مجرّد طقوس، بل هو مشروع دولةٍ وحكم وحياةٍ عامّة، فلا بُدَّ من إعداد العُدّة والعَدَد الكافيين للمواجهة القريبة. وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نهج البلاغة 1: 156 ـ 157.

([2]) قال الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 15: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إنما بعثت لأتمِّم صالح الأخلاق. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. ورواه البزّار، إلا أنه قال: لأتمِّم مكارم الأخلاق. ورجاله كذلك، غير محمد بن رزق الله الكلوداني وهو ثقةٌ.

([3]) رواه الكليني في الكافي 7: 423 ـ 424، عن عليّ بن محمد، عن إبراهيم بن إسحاق الأحمر، عن أبي عيسى يوسف بن محمد قرابة لسويد بن سعيد الأمراني، عن سويد بن سعيد، عن عبد الرحمن بن أحمد الفارسي، عن محمد بن إبراهيم بن أبي ليلى، عن الهيثم بن جميل، عن زهير، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عاصم بن حمزة السلولي، عن عمر بن الخطاب، مرفوعاً.

([4]) رواه القاضي النعمان في دعائم الإسلام 1: 92، معلَّقاً عن أبي عبد الله الصادق(ع)، مرفوعاً.

([5]) نهج البلاغة 3: 70، من كتاب له(ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دُعِي إلى وليمة قومٍ من أهلها، فمضى إليها.

([6]) رواه ابن ماجه في السنن 2: 1101، عن إسماعيل بن أسد، عن جعفر بن عون، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن أبي مسعود، مرفوعاً.

([7]) نهج البلاغة 4: 10 ـ 11.

([8]) جاء في سيرة ابن إسحاق 2: 101 ـ 103: فقال رسول الله(ص): لجاءني وأنا نائم، فقال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ فغتَّني حتّى ظننتُ أنه الموت، ثم كشطه عنّي، فقال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ فعاد لي بمثل ذلك، ثم قال: اقرأ، فقلتُ: وما أقرأ؟ وما أقولها إلاّ تنجِّياً أن يعود لي بمثل الذي صنع بي، فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثم انتهى، فانصرف عنّي، وهببت من نومي، وكأنَّما صور في قلبي كتاب، ولم يكن في خلق الله عزَّ وجلَّ أحدٌ أبغض إليَّ من شاعرٍ أو مجنون، كنت لا أطيق أنظر إليهما، فقلت: إنّ الأبعد ـ يعني نفسه(ص) ـ لشاعرٌ أو مجنون، ثم قلتُ: لا تحدِّث قريش عنّي بهذا أبداً، لأعمدنَّ إلى حالق من الجبل فلأطرحنَّ نفسي منه، فلأقتلنَّها، فلأستريحنَّ، فخرجتُ لا أريد غير ذلك، فبينا أنا عامدٌ لذلك سمعت منادياً ينادي من السماء، يقول: يا محمد، أنتَ رسول الله، وأنا جبريل، فرفعتُ رأسي إلى السماء أنظر، فإذا جبريل في صورة رجلٍ صافّ قدمَيْه في أفق السماء، يقول: يا محمد، أنتَ رسول الله، وأنا جبريل، فوقفت أنظر إليه، وشغلني عن ذلك، وعما أريد، فوقفتُ ما أقدر على أن أتقدَّم، ولا أتأخَّر، ولا أصرف وجهي في ناحية من السماء إلاّ رأيته فيها، فما زلت واقفاً ما أتقدَّم ولا أتأخَّر حتَّى بعثَتْ خديجة رسلها في طلبي، حتَّى بلغوا مكّة ورجعوا، فلم أزَلْ كذلك حتَّى كاد النهار يتحوَّل، ثمّ انصرف عنّي، وانصرفت راجعاً إلى أهلي، حتّى أتيتُ خديجة، فجلست إلى فخذها مضيفاً إليها، فقالت: يا أبا القاسم، أين كنتَ؟ فوالله لقد بعثتُ رسلي في طلبك حتَّى بلغوا مكة ورجعوا، فقلتُ لها: إنّ الأبعد لشاعرٌ أو مجنون، فقالت: أعيذك بالله يا أبا القاسم من ذلك، ما كان الله عزَّ وجلَّ ليفعل بك ذلك، مع ما أعلم من صدق حديثك وعظم أمانتك وحسن خلقك وصلة رحمك، وما ذاك يا بن عمّ؟! لعلَّك رأيت شيئاً أو سمعته، فأخبرتُها الخبر، فقالت: أبشِرْ يا بن عمّ، واثبت له، فوالذي تحلف به إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمّة، ثم قامت فجمعت ثيابها عليها، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمِّها، وكان قد قرأ الكتب، وكان قد تنصَّر وسمع من التوراة والإنجيل، فأخبرَتْه الخبر، وقصَّتْ عليه ما قصَّ عليها رسول الله(ص) أنه رأى وسمع، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، والذي نفس ورقة بيده لئن كنتِ صدقتني يا خديجة إنه لنبيُّ هذه الأمّة، وإنّه ليأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى(ع)، فقولي له: فليثبت. ورجعَتْ إلى رسول الله(ص) فأخبرته ما قال لها ورقة، فسهَّل ذلك عليه بعض ما هو فيه من الهمّ بما جاءه. فلما قضى رسول الله(ص) جواره صنع كما كان يصنع، بدأ بالكعبة فطاف بها، فلقيه ورقة وهو يطوف بالكعبة، فقال: يا ابن أخ، أخبرني بالذي رأيتَ وسمعتَ، فقصّ عليه رسول الله(ص) خبره، فقال ورقة: والذي نفس ورقة بيده إنه ليأتيك الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى(ع)، وإنَّك لنبيُّ هذه الأمّة، ولتوذينَّ ولتكذَّبنَّ ولتقاتلنَّ ولتنصرنَّ، ولئن أنا أدركتُ ذلك لأنصرنَّك نصراً يعلمه الله، ثم أدنى إليه رأسه فقبَّل يافوخه، ثم انصرف رسول الله(ص) إلى منزله، وقد زاده الله عزَّ وجلَّ من قول ورقة ثباتاً وخفَّف عنه بعض ما كان فيه من الهمّ.

وفي مسند أحمد بن حنبل 6: 233؛ وصحيح البخاري 1: 3 ـ 4، 6: 88 ـ 89، وصحيح مسلم 1: 97 ـ 98: حتى فجأه الحقّ، وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه، فقال: اقرأ، فقال رسول الله(ص): فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، قال: فأخذني فغطَّني حتّى بلغ منّي الجهد، ثمّ أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطَّني الثانية حتّى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلتُ: ما أنا بقارئٍ، فأخذني فغطَّني الثالثة حتّى بلغ منّي الجهد، ثم أرسلني فقال: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، حتّى بلغ ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾. قال: فرجع بها ترجف بوادره، حتَّى دخل على خديجة، فقال: زمِّلوني زمِّلوني، فزمَّلوه حتّى ذهب عنه الرَّوْع، فقال: يا خديجة، وأخبرها الخبر….

([9]) راجع: تفسير من وحي القرآن 23: 179، 202 ـ 203.



أكتب تعليقك