الإمام الحسن العسكريّ(ع) منقذ الإسلام والمسلمين
(الجمعة 18 / 12 / 2015م)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
تمهيد
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَةِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ (الأنبياء: 73).
من الأئمّة الأطهار، الهادين المهديِّين، أهل بيت النبيّ المصطفى(ص)، الذين جعلهم الله سبحانه وتعالى جُنَّةً وملجأً لعباده، الإمام الحادي عشر الحسن بن عليّ العسكريّ(ع).
ولا يسعُنا كأتباعٍ لهؤلاء الأبرار الأخيار إلاّ أن نطلّ على قَبَسٍ من سيرتهم العَطِرة؛ لتطمئنّ القلوب إلى عظمتهم، وعلوّ درجتهم في الدنيا والآخرة، ولنستلهم منهم، وهم الأئمّة المعصومون، العالمون العارفون، دروس العزّة والكرامة، ومكارم الأخلاق، وتحمُّل المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا من خلال اتّخاذ الله عزَّ وجلَّ لنا خلفاء في الأرض، لنقيم أحكامه، وننصر دينه، ونجعل كلمة الله هي العليا، وكلمة الشيطان هي السفلى.
الثبات في أرفع الأخلاق
لقد كان مولانا العسكريّ(ع) يُلقَّب بـ (التقيّ)، و(الخالص)، و(الزكيّ). وكلُّنا يعلم أنّ الالقاب إنّما تكون من خلال شيوعها وكثرة تردادها على ألسنة الناس، ممّا يدلّ على أنّ صاحبها قد اتّصف بصفاتٍ خُلُقيّة بقيت ثابتةً فيه، حتّى صارت علامةً له، كما هو اسمه تماماً، ويمكن تعريفه بها. وهذا ما رأيناه مع رسول الله الأكرم محمد(ص) الذي لُقِّب في الجاهليّة بـ (الصادق الأمين)، ولم يُلقَّب بها غيره. ومن هنا نعرف إلى أيّ مدىً كان الأئمّة(عم) يتحلَّوْن بالأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة، ويستمرّون في الالتزام بها حتّى تصير كاسمهم تماماً، يُعرَفون بها، ويُشار بها إليهم. ولقد اتّصف بعضهم بها حتّى صارت أكثر تعريفاً من اسمه، كـ (زين العابدين)، و(الباقر)، و(الصادق)، و(الكاظم)، و(الرضا)، و(الجواد)، و(الهادي)، و(العسكري)، وهي نسبةٌ إلى مدينة العسكر، وهي (سُرَّ مَنْ رأى)، أو (سامرّاء) كما نعرفها اليوم، وذلك أنّ المعتصم العبّاسي نقل عسكره إليها بعدما عاثوا في الأرض فساداً، وأساؤوا إلى الناس.
والفَضْلُ ما شهدَتْ به الأعداءُ
وقد وصفه أحدُ الحاقدين على أهل البيت(عم)، والساعي للإيقاع بهم، بقوله: «ما رأيتُ ولا عرفتُ بسُرَّ مَنْ رأى من العلوية مثل الحسن بن عليّ بن محمد بن الرضا، في هَدْيه وسكونه وعفافه ونبله وكبرته عند أهل بيته، وبني هاشم كافّةً، وتقديمهم إيّاه على ذوي السنّ منهم والخَطَر، وكذلك كانت حاله عند القوّاد والوزراء وعامّة الناس…، فما سألتُ أحداً من بني هاشم والقوّاد والكتّاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلاّ وجدتُه عنده في غاية الإجلال والإعظام، والمحلّ الرفيع والقول الجميل، والتقديم له على جميع أهل بيته ومشايخه. فعظم قدره عندي؛ إذ لم أَرَ له وليّاً ولا عدوّاً إلاّ وهو يحسن القول فيه، والثناء عليه»([1]).
كراماتٌ وعلوم
وممّا جاء في كراماته وعلمه: ما جاء في كتب السِّيرة والحديث من أنّه «وقع قحطٌ بسُرَّ مَنْ رأى في زمان المولى الحسن بن عليّ(عما)، فأمر الخليفة الحاجب وأهل المملكة أن يخرجوا للاستسقاء، فخرجوا ثلاثة أيام متواليات إلى المصلّى يستسقون، فما سُقوا. فخرج الجاثليق في اليوم الرابع إلى الصحراء، ومعه النَّصارى والرُّهْبان، وكان فيهم راهبٌ، فلمّا مدَّ يده هطلت السماء بالمطر، وخرج في اليوم الثاني فهطلت السماء بالمطر، فشكَّ أكثر الناس وتعجَّبوا، وصَبُوا إلى دين النَّصرانية لمّا رأوا ذلك، فأنفذ الخليفة إلى أبي محمد(ع)، وكان محبوساً، فأخرجه من حبسه، وقال: الحَقْ أمّة جدِّك فقد هلكَتْ [ولم يتوانَ الإمام(ع) ولم يتلكَّأ، ونسي تماماً ما لاقاه من هذه الأمّة، وعلى رأسها الخليفة، فأسرع ليستنقذ الناس؛ فإنّها مسؤوليّة ألقاها الله على عاتق كلّ إنسانٍ، وهي الدعوة إلى الله، وإلاّ فما معنى قوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (البقرة: 30)؟!]، فقال له: إنّي خارجٌ من غدٍ ومزيلٌ الشكَّ. فخرج الجاثليق في اليوم الثالث، والرُّهْبان معه، ومولانا وسيّدنا الحسن بن عليّ(عما) في نفرٍ من أصحابه، فلما بصر بالراهب وقد مدَّ يده أمر بعض مماليكه أن يقبض على يده اليمنى، ويأخذ ما بين أصبعَيْه، ففعل، وأخذ من بين سبابتَيْه عظماً أسود، فأخذه مولانا(ع) ثمّ قال: استَسْقِ الآن، فاستسقى وكانت السماء مغيمة فانقشعت، وطلعت الشمس بيضاء. فقال الخليفة: ما هذا العظم يا أبا محمد؟ فقال(ع): هذا عظمُ نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، وهذا رجلٌ من نسل ذلك النبيّ، فوقع في يده هذا العظم، وما كشف عن عظم النبيّ إلاّ هطلت السماء بالمطر»([2]). وهكذا استنقذ الإمام(ع) بعلمه وحلمه الناس من الانزلاق وراء ذلك المُخادِع، فجنَّبهم سخط الله جلَّ وعلا، وعذابه يوم القيامة. فكيف يجنِّبنا هذا الإمام العظيم النار، وهو بعيدٌ عنّا؟
قبسٌ من حِكَمه ووصاياه
إنّه ترك لنا كمّاً هائلاً من علمه وحِكَمه ومواعظه، نستطيع من خلال الالتزام بأوامره فيها، والابتعاد عمّا نهى عنه من خلالها، أن نبتعد عن مواطن الهلاك والعذاب في نار جهنَّم.
1ـ وصيَّةٌ إلى الشيعة
فها نحن نسمعه يوصي شيعته، ونحن ندَّعي أنّنا شيعتُه، فوصيَّتُه شاملةٌ لنا إذا صدقنا في دعوانا: «أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى مَنْ ائتمنكم من بِرٍّ أو فاجر، وطول السجود، وحُسْن الجِوار، فبهذا جاء محمدٌ(ص). صلُّوا في عشائرهم، واشْهَدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدُّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحَسُن خلقه مع الناس، قيل: هذا شيعيٌّ فيسرّني ذلك. اتَّقوا الله، وكونوا زَيْناً، ولا تكونوا شَيْناً، جُرُّوا إلينا كلَّ مودّةٍ، وادفعوا عنا كلَّ قبيحٍ، فإنّه ما قيل فينا من حَسَنٍ فنحن أهله، وما قيل فينا من سُوء فما نحن كذلك»([3]).
2ـ أفضل العبادة التفكُّر في أمر الله
ونسمعه يحذِّر الناس من كثيرٍ من الأعمال التي يقومون بها، وهم يَحْسَبون أنّها أكثر ما يقرِّبهم إلى الله زلفى، ويُدْنيهم منه منزلةً. فكم من الناس مَنْ يصلّي ويصوم، وهو يعتبر الصلاة والصوم أعظم القُرُبات، ومنتهى ما تصل إليه العبادة؟! فلنستمِعْ إلى الإمام(ع) يقول: «ليس العبادة كثرة الصيام والصلاة، وإنّما هي كثرة التفكُّر في أمر الله»([4])، في عظمته وهيبته وقدرته، واستحقاقه للعبادة وحده دون سواه، فإنّ ذلك سوف يجعل ارتباط الإنسان بربِّه ارتباطاً وثيقاً لا فكاك له؛ لأنّه ناشئٌ عن المعرفة الحقيقيّة له عزَّ وجلَّ، وإلاّ فإنّ علاقته به ستصبح علاقةً سطحيّة ظاهريّة سرعان ما تعكِّر صَفْوَها بهارجُ الدنيا وزينتُها. وهذا ما كان الإمام العسكري(ع) يلحظه في الناس، حيث كان يقول: «الإشراك في الناس أخفى من دبيب النمل على المسح الأسود في الليلة المظلمة»([5]). فإذا الناس في نظر الإمام(ع) مجموعة من المخلوقات قد دبَّ فيها الشِّرْك بالله، الشِّرْك في العبادة، والشِّرْك في المحبّة، والشِّرْك في الطاعة له تبارك وتعالى.
نصائح لحياةٍ سعيدة في الدنيا والآخرة
وينطلق الإمام(ع) يرسم لنا صورة الإنسان الذي يُمثِّل السوء والبؤس في أقبح صورهما، فيقول: «بئس العبد عبدٌ يكون ذا وجهين وذا لسانين؛ يطري أخاه شاهداً ويأكله غائباً، إنْ أُعطي حَسَده، وإنْ ابتُلي خَذَله»([6]).
ثمّ يعمد الإمام(ع) إلى بيان مَنْ هو أزهد الناس وأعبدهم. فليس الزُّهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيءٌ، بحيث يسيطر على حواسك وجوارحك وتصرُّفاتك، لتسير بك ولو إلى الهَلَكة، فكان يقول:
ـ «أورع الناس مَنْ وقف عند الشُّبْهة»: [فإذا اشتبهَتْ عليه الأمور توقَّف ليدرسها وليمحِّصها، وبعد ذلك يختار الطريق الذي يرى أنّه طريق الحقّ والخير الموصِل إلى الجنّة].
ـ «أعبد الناس مَنْ أقام على الفرائض»: [فليست العبادة أن يكثر المرء من المستحبّات والنوافل، وإنْ كان له الأجر العظيم عليها، بل العبادة أن يحافظ على الواجبات؛ إذ إنّ كثيراً من الناس يثابرون على فعل المستحبّات، ولكنّهم في مجالاتٍ أخرى يتركون الواجبات، ويستخفّون بها. وليست تلك هي العبادة الحقيقيّة].
ـ «أزهد الناس مَنْ ترك الحرام»: [فحتّى لو كانت نفسه تنازعه إليه عليه أن يتركه؛ احتساباً لما عند الله من الأجر. ومَنْ يفعل ذلك فهو أزهد الناس].
ـ «أشدُّ الناس اجتهاداً مَنْ ترك الذنوب»([7]): [فذلك يحتاج صبراً عظيماً، وجهداً كبيراً. وهذا هو الامتحان الأصعب].
ورُوي عنه(ع) أنّه قال: «خصلتان ليس فوقهما شيءٌ: الإيمان بالله؛ ونفع الإخوان»([8]).
وقال(ع)، موجِّهاً لأولئك الذين لا شغل لهم إلاّ تتبُّع عثرات الناس، ولا سيَّما المؤمنين منهم، فينتقدونهم بسببها، ولكنْ أمام الناس، ممّا يؤدّي إلى هتك حرمة هؤلاء، والنَّيْل من كرامتهم: «مَنْ وعظ أخاه سرّاً فقد زانه؛ ومَنْ وعظه علانيةً فقد شانه»([9]).
وكان(ع) يقول: «ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبةٌ تُذِلُّه»([10]).
ورحل مظلوماً
هذا هو سيِّدنا ومولانا الحسن بن عليّ العسكريّ علماً، وحلماً، وحكمةً، وموعظةً. وكما هي حال أجداده الطاهرين فقد رحل عن هذه الدنيا الفانية مظلوماً مقهوراً، خائفاً على ولده الوحيد (مولانا صاحب العصر والزمان محمد بن الحسن المهديّ المنتظر(عج))، الذي تولّى الصلاة على أبيه، وهو في سنّ الخامسة من عمره، للتدليل على وجوده وحضوره، ثمّ غاب عن الأعين والأبصار، إلى حين يأذن الله له بالظهور، حيث يكون الفَرَج والأمل الموعود.
فالسلام على سيِّدنا ومولانا الحسن بن عليّ العسكريّ(ع)، يوم وُلد، ويوم مات، ويوم يُبعث حيّاً. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) رواه المفيد في الإرشاد 2: 321، عن أبي القاسم جعفر بن محمد، عن محمد بن يعقوب، عن الحسين بن محمد الأشعري ومحمد بن يحيى وغيرهما، قالوا: كان أحمد بن عبيد الله بن خاقان على الضياع والخراج بـ (قم)، فجرى في مجلسه يوماً ذكر العلوية ومذاهبهم، وكان شديد النصب والانحراف عن أهل البيت(عم)، فقال:…، في حديثٍ طويل.
([2]) رواه ابن حمزة الطوسي في الثاقب في المناقب: 575؛ وقطب الدين الراوندي في الخرائج والجرائح 1: 441 ـ 442، معلَّقاً عن عليّ بن عليّ بن الحسن بن شابور، عن مولانا الحسن بن عليّ العسكريّ(ع).
([3]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 487 ـ 488، معلَّقاً.
([4]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 442، معلَّقاً.
([5]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 487، معلَّقاً.
([6]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 488، معلَّقاً.
([7]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 489، معلَّقاً.
([8]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 489، معلَّقاً.
([9]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 489، معلَّقاً.
([10]) رواه ابنُ شعبة الحرّاني في تحف العقول: 489، معلَّقاً.