13 مارس 2015
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬484 مشاهدة

ذكرُ الله، قربٌ ووِصال

2015-03-13-منبر الجمعة-ذكرُ الله، قربٌ ووِصال

(الجمعة 13 / 3 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد: ذكرُ الله عبادةٌ

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 35).

يدور حديثنا اليوم حول ذكر الله سبحانه وتعالى، هذا العمل الذي أمر الله عزَّ وجلَّ به في أكثر من آيةٍ، حيث كان وصيَّةَ الله جلَّ وعلا لنبيِّه الأكرم محمدٍ(ص)، فخاطبه بقوله: ﴿وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الإنسان: 25)، ﴿وَاذْكُرْ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً﴾ (المزَّمِّل: 8)، كما كان تكليفاً إلهيّاً للمؤمنين والمؤمنات، حيث خاطبهم ربُّهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً﴾ (الأحزاب: 41 ـ 42).

وذكرُ الله عبادةٌ من العبادات يتقرَّب بها الإنسان إلى ربِّه. فها هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) يدعو الله متقرِّباً إليه بذكره، فيقول ـ كما في دعاء كميل بن زياد([1]) ـ: «اللهُمَّ إنّي أتقرَّب إليك بذكرك([2]).

وليس ذكر الله حقَّ ذكره بالأمر الذي يسهل الالتزام به، فهو يحتاج إلى توفيقٍ وعناية إلهيّة تجعل المرء في عداد الذاكرين، ولهذا يقول عليٌّ(ع) أيضاً في دعاء كميل بن زياد: «وأسألك بجودك وكرمك أن تدنيني من قربك، وأن توزعني شكرك، وأن تلهمني ذكرك»([3]).

وفي موردٍ آخر يقول(ع): «يا ربِّ يا ربِّ يا ربِّ، أسألك بحقِّك وقدسك وأعظم صفاتك وأسمائك أن تجعل أوقاتي في الليل والنهار بذكرك معمورة»([4]).

وفي موردٍ ثالث: «واجعل لساني بذكرك لهجاً»([5]).

وهكذا نلحظ تركيز الإمام(ع) على موضوع ذكر الله، حيث يذكره في دعائه هذا في ستّة مواضع.

فما هو ذكر الله؟ وما هي آثاره في حياة الإنسان؟ وما هي عاقبة مَنْ يغفل عن ذكر الله؟

ما هو ذكر الله؟

ذكرُ الله نوعان: لفظيٌّ، كأنْ تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلاّ الله، والله أكبر، أو اللهُمَّ صلِّ على محمدٍ وآل محمدٍ، أو أستغفر الله، أو أن تقرأ القرآن، أو تدعو بدعاءٍ مأثور أو غير ذلك ممّا يُعَدُّ ذكراً لله عزَّ وجلَّ. وهذا الذكر محبوبٌ ومطلوب، وقد حثَّتْ عليه أكثر من آيةٍ كريمة وروايةٍ شريفة، بل جعله الله سبحانه وتعالى بديلاً كافياً عن أجزاء بعض الواجبات العباديّة، كبعض مناسك الحجّ، فقد أجاز الإسلام للحاجّ، بدل المبيت في منى، أن يبقى في مكّة طوال الليل مشتغلاً بالعبادة، ويكفي فيها ذكر الله تقدَّسَتْ أسماؤه.

وهناك ذكرٌ من نوعٍ آخر، وهو استحضار وجود الله، وقوّة الله، وقدرة الله، وسائر صفاته وأسمائه الحسنى. وهذا ما نستوحيه من الآية الكريمة: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 190 ـ 191)، وأيضاً نستوحيه من الحديث القدسيّ: «يا بن آدم، اذكرني في غضبك أذكرك في غضبي، لا أمحقك في مَنْ أمحق، وارْضَ بي منتصِراً فإنّ انتصاري لك خيرٌ من انتصارك لنفسك»([6]).

وعليه فهذا الذكر أيضاً محبوبٌ ومطلوب، بل هو ركيزةٌ أساسيّة للتقوى؛ فإنّ ذكر الله بهذا المعنى يجعل الإنسان يبتعد عن كلذ ما نهى الله عنه، ويقترب من كلِّ ما أمر الله به، وهذه هي التقوى.

وذكر الله هذا من أعظم القربات وأفضل العبادات فقد قال جلَّ وعلا: ﴿إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ﴾ (العنكبوت: 45).

آثار ذكر الله، وعاقبة الغافلين عنه

لذكر الله عزَّ وجلَّ ـ بنوعَيْه ـ آثارٌ كثيرة وعظيمة في حياة الإنسان، في الدنيا والآخرة.

فذكرُ الله يورث الإنسان الشرف والعزّة والكرامة وذلك أنّه حين يذكر الله لا يتعلَّق إلاّ به، ولا يلجا إلاّ إليه، وبذلك يعيش شرف الاستغناء عن كلّ مَنْ عدا الله تبارك وتعالى. وإلى هذا المعنى يشير الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) في أحد أدعيته، حيث يقول: «يا مَنْ ذكرُه شرفٌ للذاكرين»، ثمّ يتابع بعد ذلك فيقول: «فاشغل قلوبنا بذكرك عن كلّ ذكر»([7]).

وذكرُ الله شفاءٌ لما في قلب الإنسان ونفسه من الوحشة والإحساس بالغربة والضعف والوهن. وإلى هذا يشير عليٌّ(ع) في دعاء كميل بن زياد، فيقول: «يا مَنْ اسمُه دواءٌ، وذكرُه شفاء»([8]).

وذكرُ الله مُطَمْئِنٌ للقلوب، مانعٌ من الخوف والقلق، فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28).

وذكرُ الله سببٌ للفلاح والنجاح وتحقيق النصر والغَلَبة على العدوّ، فقد قال عزَّ من قائلٍ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الأنفال: 45).

وذكرُ الله نوعٌ من الشكر لله والامتنان له، وقد قال جلَّ وعلا، في معرض حديثه عن صلاة الخوف، وهي صلاةٌ لها شرائطها وأركانها وكيفيّتها الحاصّة بها، ووقتها أثناء المعركة، حين لا وقت راحةٍ أو هدنة يأمن فيها الإنسان على نفسه ليصلّي بالكيفيّة الأصليّة المعروفة: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾ (النساء: 103).

وبما أنّ الشيطان قد أخذ على نفسه أن يعمل كلّ ما في وسعه في سبيل إبعاد بني آدم عن شكر الله فقد انطلق هو وجنودُه يزيِّنون للناس نسيانَ الله وعدمَ ذكره، أو الإقلالَ من ذكره. فها هو اللهُ عزَّ وجلَّ يحدِّثنا عن المنافقين فيصفهم بقوله: ﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (النساء: 142).

وحين يحدِّثنا تبارك وتعالى عن الظلم والظالمين يعتبر أظلم الناس مَنْ صدَّ عن ذكر الله، حيث يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (البقرة: 114).

وكلُّ هذه الأمور بفعل وساوس الشيطان وأعوانه، فهو يعرف أنّه ما دام الإنسان ذاكراً لله بلسانه أو بقلبه فلا سبيل له إليه، لذلك يعمل على إبعاده عن ذكر الله ليتسنَّى له النفوذ إلى حياته وهدمها. وهذه هي وسيلة الشيطان الناجحة للإيقاع بالإنسان، فيأتيه من قِبَل اللَّهْو والخَمْر والمَيْسِر (القِمار)؛ ليصدَّه عن ذكر الله، والباقي معروفٌ. لذا يقول جلَّ جلالُه: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ﴾ (المائدة: 91)، وفي آيةٍ أخرى: يصف أصحاب النار فيقول: ﴿اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ (المجادلة: 19)، الخاسرون لأنفسهم، الخاسرون لمستقبلهم في الجنّة؛ فإنّ ذكر الله منجاةٌ من النار، وطريقٌ إلى الجنّة. وهذا ما أكَّده عليٌّ(ع) في دعاء كميل بن زياد، حيث يتساءل تساؤل المستنكِر، فيقول: «أتُراكَ معذِّبي بنارك بعد توحيدك، وبعد ما انطوى عليه قلبي من معرفتك، ولهج به لساني من ذكرك»([9])؛ إذ لا يجتمع العذاب مع ذكر الله، فكأنّ الله قد أخذ على نفسه أن لا يعذِّب بالنار الذاكرين له.

وذكرُ الله طريقٌ إلى الجنّة؛ فقد رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال لأصحابه، وهم جلوسٌ حوله: مَنْ أراد أن ينظر إلى رجلٍ من أهل الجنّة فلينظر إلى هذا، وأشار إلى رجلٍ قد دخل المسجد، فقام أحد أصحاب النبيّ(ص) وتبع الرجل، ولازمه فترةً من الزَّمَن يريد ان يتعرَّف على ما يعمله ممّا اوصله إلى الجنّة فوجده يذكر الله في كلّ حالاته، بحيث لا ينقطع عن ذكر الله في حالٍ من الأحوال، وكان ثوابُه من وراء ذلك الجنّة، كما بيَّن رسول الله(ص).

«اللهُمَّ، اشغَلْنا بذكرك، وأَعِذْنا من سخطك، وأَجِرْنا من عذابك، وارزُقْنا من مواهبك، وأَنْعِمْ علينا من فضلك»([10])، يا أرحم الراحمين. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) هو أحد مُخْلِصي أصحاب أمير المؤمنين وابنه الحسن المجتبى(عما)، وقد ناجاه عليٌّ(ع) طويلاً، وعلَّمه عِلْماً كثيراً، وأوصاه بوصايا ثمينةٍ. وممّا علَّمه إيّاه هذا الدعاء المبارك، الذي عُرِف باسمه، وهو في الواقع من أدعية أمير المؤمنين(ع).

([2]) رواه الطوسي في مصباح المتهجِّد: 845، معلَّقاً عن كميل بن زياد النخعي أنّه رأى أمير المؤمنين(ع) ساجداً يدعو بهذا الدعاء في ليلة النصف من شعبان.

([3]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 845.

([4]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 849.

([5]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 850.

([6]) رواه الكليني في الكافي 2: 303 ـ 304، عن عدّةٍ من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن عبد الحميد، عن يحيى بن عمرو، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع)….

([7]) الصحيفة السجّاديّة (أبطحي): 75، دعاؤه(ع) بخواتيم الخير.

([8]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 850.

([9]) الطوسي، مصباح المتهجِّد: 846.

([10]) الصحيفة السجّاديّة (أبطحي): 220، دعاؤه(ع) في سحر كلّ ليلةٍ من شهر رمضان، وهو المعروف بـ (دعاء أبي حمزة الثُّمالي).



أكتب تعليقك