29 يناير 2016
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
3٬205 مشاهدة

الإخلاص والرِّياء، العمل لله أم للناس؟

2016-01-29-منبر الجمعة#أمثال-الإخلاص والرياء، العمل لله أم للناس؟

(الجمعة 29 / 1 / 2016م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين.

المُنْفِقون في سبيل الله: عملٌ صالح، ونماءٌ مبارك

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 261).

الإنفاق في سبيل الله هو أن يبذل الإنسان نفسَه أو مالَه في ما يرضي الله سبحانه وتعالى، من دفاعٍ عن الحقّ، أو النَّفْس أو المال أو العِرْض، أو نصرة مظلومٍ، أو مساعدة محرومٍ، أو إعانة ملهوفٍ، أو كفالة يتيمٍ، أو قضاء حاجة مؤمنٍ، وما إلى ذلك من أعمال البِرِّ. وهي كثيرةٌ جدّاً، يضيق الوقت عن إحصائها بأجمعها.

وعليه فالإنفاق عملُ خيرٍ مبارك، لا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسَه من فضله وجزائه.

أيُّها الأحبَّة، علينا أن نعرف جيِّداً أنّ المال الذي بين أيدينا ليس مُلْكاً مَحْضاً لنا، بل هو أمانةُ الله عندنا، وقد رخَّص لنا في الاستفادة منه لتأمين احتياجاتنا المعيشية كلِّها، وعلينا أن نوصل الباقي (أو جزءاً من الباقي) إلى مستحقِّه، ومَنْ يستفيد منها.

فلا يجوز ـ من المنظار الشرعيّ ـ كنزُ المال وادِّخاره، بل لا بُدَّ من بذله لمَنْ يحتاج إليه، سواءٌ كانوا أفراداً أو أسواقاً اقتصاديّة، لتدور عجلة الاقتصاد في المجتمع الإسلامي بكلِّ أمانٍ واستقرار.

ويمثِّل الله جلَّ وعلا للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بالحبَّة من القمح أو الشعير أو غيرهما التي يبذرها الفلاّح في الأرض، فتنبت سنبلةً، تتفرَّع منها سنابل ستّةٌ، فيصير المجموع سبعَ سنابل، وفي كلِّ سنبلةٍ مائة حبّة. وهكذا تكون الحبّة الواحدة قد أنتجَتْ سبعمائة حبّةٍ.

وهكذا يقرِّب الله إلى أذهاننا كيف أنّه يضاعف الجزاءَ والثواب على الإنفاق في سبيله. فهو القادر والقاهر، و﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (الزمر: 63؛ الشورى: 12)، ﴿وَللهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (المنافقون: 7)، وهو الجواد الكريم، ويعطي على الطاعة ـ ومنها الإنفاق في سبيل الله ـ أجراً عظيماً، ولكنْ إذا تحقَّق ذلك بشروطه كلِّها، وأهمُّها الإخلاص في النيّة؛ وأن يكون ذلك في الخيرات، لا في الشرّ والسيِّئ من الأفعال.

ويمكن أن يكون المراد المعنى الكنائيّ، وليس الحقيقيّ، فيكون العدد سبعمائة كنايةً عن الكَثْرة، فاللهُ يضاعف مال مَنْ ينفق في سبيل الله أضعافاً مضاعَفة، قد تتجاوز العدد سبعمائة، وقد تنقص عنه، وفق معايير وضوابط وضعها الله سبحانه وتعالى، وتكون الآيةُ إشارةً إلى أنّ مالَ الصَّدَقة والمال المنفَق في سبيل الله يضاعفه الله، وينمِّيه، ويبارك فيه.

وقيل: إنّ هذه الآية خاصّةٌ بالإنفاق في الجهاد، وأما غيره من الطاعات فإنما يُجزى بالواحد عشرةً أمثالَها([1]).

المُراؤون والمُخْلِصون، بين الحَبْط والقبول

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة: 264 ـ 265).

ويخاطب الله المؤمنين الذين آمنوا به خالقاً وربّاً ومشرِّعاً، عالماً وحكيماً وقديراً، وينهاهم عن أن يبطلوا صَدَقاتهم.

والصَّدَقة هي أن يبذل الإنسان مالَه أو علمَه أو قوَّته أو جاهه في مساعدة المحتاجين، الذين لا يمكنهم قضاءُ حوائجهم إلاّ بالاستعانةِ بغيرهم.

والناس في الإنفاق على قسمين: مَنْ ينفق رياءً وسمعة، وطلباً للجاه والشهرة؛ ومَنْ ينفق مخلِصاً لله، متقرِّباً إليه، قد حرَّكته عواطفه الإنسانية نحو الخَيْر والإصلاح.

والرياءُ ـ أيُّها الأحبَّة ـ شِرْكٌ خفيّ، وعليه فهو نقيض الإيمان، ولا يجتمعان أبداً.

وقد جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ (يوسف: 106) أنّ ذلك الشِّرْك هو الرياء في الطاعات والعبادات([2]).

وهكذا يضرب الله مَثَلاً للمُرائين، كما المُخْلِصين.

أمّا المراؤون في أعمالهم فمَثَلهم كمَثَل الذي يضع حبّةً من القمح مَثَلاً في ترابٍ مجتمع على جبلٍ أصمّ، وهو يحسب أنّه نابتٌ في موسِمه، فإذا بالمَطَر الغزير ينهمر من السماء ـ والمَطَر نعمةٌ ينتظرها كلُّ مزارع ـ، وإذا بتلك الطبقة من التراب تتزحلق عن تلك الصخور، لتعود ملساء صمّاء، ويضيع الموسِم، فلا نباتَ، ولا ما يزرعون.

ويقف ذاك الزارعُ عاجزاً لا يقدر على إصلاح ما فَسَد. وهكذا هو المرائي في أعماله يخسرها ولا يُثاب عليها، وإنَّما هي بحكم الباطلة اللاغية، ولا يقدر على إعادتها أو إصلاحها.

وفي المقابل يصف جلَّ وعلا ما ينفقه المَرْء من أموالٍ في سبيل الله، وطلباً لرضاه، وعن طيب خاطرٍ وحسن سريرة، بالزَّرْع في أرضٍ خصيبة، على رَبْوةٍ مرتفعة؛ لتكون في مأمنٍ من السيول، فإذا أصابها المَطَر الغزير، وهبَّ الهواء العليل، وأخذت حاجتَها من ضوء الشمس؛ لارتفاعها، أعطَتْ ثماراً يانعة ووفيرة.

وفي أسوأ الحالات يكتفي ذلك الزَّرْع بالقليل من الماء والرطوبة، ولو بمثل ما يعلق عليه من قَطْر النَّدى، فينمو ويشتدّ.

وهكذا لا يحتاج العملُ الخالص إلى مؤنةٍ كثيرة، فالقليلُ مع الإخلاص خيرٌ من كثيرٍ مع الرِّياء والمَنّ والأذى.

الموحِّد والمشرك ـ المُرائي والمُخْلِص، بين الطمأنينة والضياع

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر: 27 ـ 29).

هو مَثَلٌ يضربه الله للموحِّد والمُشْرِك، ليعرف كلٌّ منهم حقيقةَ ما هو عليه.

في نظام العبوديّة القديم، الذي خلَّص الإسلامُ العظيم البشريَّة كلَّها منه، وإلى الأبد بإذن الله، كان بعضُ الناس؛ ولأسبابٍ عديدة، لا مجال لذكرها في هذه العجالة، يصبحون في عداد العبيد لدى أناسٍ آخرين.

هذا العَبْد قد يكون مملوكاً لشخصٍ واحد، يتصرَّف فيه كيف يشاء، ويأمره بما يشاء، ويستعمله في ما يشاء؛ وقد يكون مِلْكاً لأشخاصٍ متعدِّدين. وهذا هو مصدرُ المشكلة.

فماذا لو أمره أحدُ أسياده بشيءٍ وأمره الآخر بخلافه؟! سيقع النزاع والخلاف، ورُبَما وصل الأمر إلى الاقتتال المستَتْبع لإراقة الدماء، وإتلاف الأموال، وانتهاك الحُرُمات. فأيُّ مصيبةٍ هذه؟! وأيُّ واقعٍ سيِّئ هو هذا الواقع.

بينما العَبْد المملوك من شخصٍ واحد لا يعاني من ذلك كلِّه، بل يعيش كمالَ الانسجام والاستقرار والهدوء والطمأنينة.

وهكذا يشبِّه الله حال الموحِّد والمُشْرِك؛ فالموحِّد لا يرى لغير الله ولايةً عليه، ولا يرى نفسَه مُلْزَماً بطاعة غير الله، وهكذا يعيش الطمأنينة والاستقرار النفسي والعملي، فلا يتوجَّه إليه تكليفان متضادّان.

وأمّا المُشْرِك، الذي يؤمن بالآلهة المتعدِّدة، ويرى لكلٍّ منها الولاية عليه، فهو ـ عاجِلاً أو آجِلاً ـ سوف يقع فريسة التضادّ والاختلاف في الحُكْم، فبعضهم يريد شيئاً، ويريد الآخرون شيئاً آخر، فماذا يصنع ذاك المسكين الحائر؟!

وتشبه هذه الآية إلى حدٍّ بعيد قولَه تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (الأنبياء: 22).

كما يمكن أن يُقال: إنّ هذه الآية مَثَلٌ للمُرائي في عمله والمُخْلِص فيه.

فالمُخْلِص يتوجَّه بعمله إلى الله وحده لا شريك له، ولا يهمُّه سوى رضاه، وهكذا يحصل على كامل المنفعة والأثر الطيِّب لذلك العمل العباديّ أو الاجتماعيّ أو…

أمّا المُرائي فإنّه يتوجَّه بعمله إلى الله وغيره، فتراه في حَيْرةٍ من أمره، كيف يُرْضي هذا وذاك من الناس؟! وكيف يتَّقي غضب فلانٍ وفلان؟! وإذا به في كثيرٍ من الأحيان يخسر كلَّ شيء، ولا يكون لعمله أيُّ أثرٍ إيجابيّ في حياته أو حياة الآخرين.

اللهُمَّ، بارِكْ لنا في ما أعطيتَنا، وأعِنّا على أداء حقوق غيرنا، يا جوادُ يا كريم. اللهُمَّ، اجعَلْ أعمالنا خالصةً لوجهكَ الكريم، وطلباً لمرضاتكَ، يا عليُّ يا عظيم. اللهُمَّ، إنّا نسألك العَوْنَ على توحيدك، كما أنتَ أهلٌ لذلك. وآخر دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالَمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 2: 180.

([2]) راجِعْ: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 11: 276، 280 281؛ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزَل 7: 314 315.



أكتب تعليقك