9 مارس 2018
التصنيف : مقالات قرآنية، منبر الجمعة
لا تعليقات
2٬209 مشاهدة

أخبار الغيب في القرآن، معجزةٌ إلهيّة بالغة

(الجمعة 9 / 3 / 2018م)

القرآن معجزةٌ حاضرة

لقد حاز القرآن الكريم الصفات الخمس للمعجزة، وهي:

1) خرق العادة.

2) أن يأتي بها المدّعي لمنصبٍ إلهيّ.

3) أن يعجز الآخرون عن الإتيان بمثلها بعد تحدّيهم بالإتيان بمثلها.

4) أن تكون شاهِداً على صدق الادّعاء.

5) أن لا تكون على خِلاف مدَّعى المدَّعي للمنصب الإلهيّ.

إذن فالقرآن الكريم هو من المعجزات التي أظهرها الله تعالى على يد نبيّه محمد(ص)، بل نقول أكثر من ذلك: أنّ القرآن هو المعجزة الرئيسيّة للنبيّ الأكرم(ص)، التي تحدّى بها النبيّ الأكرم(ص) جميع الكائنات، من الإنس والجِنّ، داعِياً إيّاهم للإتيان بمثل القرآن، ولم يقدِرْ أحدٌ على ذلك، فكان القرآن المعجزة الوحيدة التي شاهدها الناس في يومنا هذا بأمّ أعينهم، في حين علموا بالمعجزات الأخرى عن طريق النقل المتواتِر.

وجوه إعجاز القرآن  

حين تحدّى النبيّ(ص) الإنس والجِنّ بأن يأتوا بمثل القرآن كان كلامُه مطلقاً، بحيث كان تحدّيه لكلّ فردٍ من أفراد الإنس والجِنّ، العامّة والخاصّة، الجاهل والعالم، الرجل والمرأة،…إلخ.

كما أنّه لم يُقيِّد التحدّي بالإتيان بمثل القرآن في جهةٍ من الجهات، بل كان تحدّيه بالإتيان بمثلِ القرآن مطلقاً.

وبالتالي فمعنى آية التحدّي أنّه لئن اجتمعت الإنس والجِنّ، بكلّ أفرادهم، على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، من جميع الجهات؛ في الآتي به؛ وفصاحته؛ وبلاغته؛ ونظمه؛ والعلوم التي فيه؛ والأخبار الغيبيّة المشار إليها فيه؛ وعدم الاختلاف بين آياته؛ وغيرِ ذلك من وجوه إعجازه، لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً.

ومن هنا يظهر أنّ القرآن يدّعي عمومَ إعجازه من جميع الجهات([1]).

وبالتالي فلا وجه لما ادَّعاه البعض من أنّ القرآن معجِزٌ في جهةٍ واحدةٍ فقط، أو جهتَيْن، بل نقول القرآن معجِزٌ من جميع الجهات، ومنها:

إعجازُه من جهة الأخبار الغيبيّة

المُراد من الغَيْب: مرادُنا من الغَيْب ها هُنا ما كان لا يعلمه إلاّ الله عزَّ وجلَّ، ومتوقِّفاً علمُ البَشَر به على إِطْلاع الله لهم عليه؛ إذ إنّ هناك بعض المسائل ممّا يكون مجهولاً للبشر في زَمَنٍ ما، فيحسبُها أصحابُ ذلك الزمان من علم الغيب، ولكنَّها ليست من الغيب في شيءٍ؛ إذ سيعلمُها قومٌ آخرون فيما بعد، عند تطوُّر العلم ووسائل المعرفة، وتلك هي الحقائق العلميّة، التي أشار القرآن الكريم إلى كثيرٍ منها، ولكنّ بحثنا هذا لا علاقة له ببيان إعجاز القرآن من هذه الجهة.

أنواع الأخبار الغَيْبيّة: لقد تضمَّن القرآن الكريم الكثيرَ من الأخبار الغَيْبيّة، وهي على ثلاثة أنواعٍ:

1) الأخبار الغيبيّة الماضية، كقصص الأنبياء، والرُّسُل، والأمم السالفة.

2) الأخبار الغيبيّة الحاضرة، كالذي كان يُضمره ويمكُرُه المنافقون من المكائد للإسلام والمسلمين، كقوله تعالى في مسجد الضرار الذي بناه المنافقون: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللهُ يَشْهَدُ أنّهمْ لَكَاذِبُونَ﴾، وسورة التوبة فيها من هذا الضرب شيءٌ كثيرٌ.

3) الأخبار الغيبيّة المستقبَليّة، كالوقائع، والملاحم، والأحداث، والأخبار، والأمور، التي أخبر القرآن الكريم أنّها ستحصل في مستقبَل الأيّام.

إعجاز القرآن من جهة الأخبار الغيبيّة المستقبَليّة

وكلامُنا هنا هو في بيان إعجاز القرآن من حيث الأخبار الغيبيّة المستقبَليّة فقط، فنقول:

قالوا: إنّ من الآيات التي أشارت إلى حوادثَ، ووقائعَ، وأمورٍ، ستقع في المستَقبَل، ووَقَعَت فِعْلاً، بحيث كانت من المؤيِّدات والشواهِد المستَمِرّة على أنّ القرآن من عند الله، وأنَّ النبيّ(ص) صادِقٌ في دعواه النبوّة والرسالة، ما يلي([2]):

1ـ ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 23 ـ 24).

2ـ ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ أنّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل: 5 ـ 8).

3ـ ﴿الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 1 ـ 5).

4ـ ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ﴾ (الحجر: 94 ـ 95).

5ـ ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 32 ـ 33). ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (الصفّ: 8 ـ 9).

6ـ ﴿سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ﴾ (المسد: 3).

7ـ ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

8ـ ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أنّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 7).

9ـ ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً﴾ (الفتح: 27).

10ـ ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلاَمَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ (الفتح: 15).

11ـ ﴿قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ (الفتح: 16).

12ـ ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: 9).

13ـ ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ أنّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (المائدة: 67).

14ـ ﴿فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ﴾ (التوبة: 83).

15ـ ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61).

16ـ ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (البقرة: 94 ـ 95).

17ـ ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ (الأنعام: 65).

18ـ ﴿أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ (القمر: 44 ـ 45).

تأمُّلٌ وتحقيق

ولكنَّ الذي يلحظه المتأمِّل في هذه الآيات، التي ذكروها كأمثلةٍ لإعجاز القرآن من حيث إخباره عن الأخبار الغيبيّة المستقبَليّة، أنّها تنقسم إلى عِدّة أقسامٍ، وهي:

1ـ ما كان إخباراً عن حوادث مستقبَليّة، وقد تحقَّقَت بالفِعْل، وكانت من الشواهِد على أنّ القرآن من عند الله وأنَّ النبيّ الأكرم(ص) صادقٌ في دعوته، كإخبار القرآن عن الروم بأنّهم سينتصرون في بضع سنين من إعلان هذا النبأ، الذي يقول الله فيه: ﴿غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ (الروم: 2 ـ 5).

وبيانُ ذلك أنّ دولة الرومان، وهي مسيحيّة، كانت قد انهزمت أمام دولة الفرس، وهي وثنيّة، في حروب طاحنة بينهما سنة 614م، فاغتمّ المسلمون بسبب أنّها هزيمة لدولةٍ متديِّنة أمام دولة وثنيّة، وفرح المشركون، وقالوا للمسلمين في شماتة العدوّ: إنّ الروم يشهدون أنّهم أهل كتاب، وقد غلبهم المجوس، وأنتم تزعمون أنَّكم ستغلبون بالكتاب الذي أنزل عليكم، فسنغلبكم كما غلبت فارس الروم، فنزلت الآيات الكريمة يبشِّر الله فيها المسلمين بأنّ هزيمة الروم هذه سيعقبها انتصارٌ في بضع سنين، أي في مدّةٍ تتراوح بين ثلاث سنواتٍ وتسعٍ، ولم يكُ مظنوناً وقتَ هذه البشارة أنّ الروم تنتصر على الفرس في مثل هذه المدّة الوجيزة، بل كانت المقدّمات والأسباب تأبى ذلك عليها؛ لأنّ الحروب الطاحنة أنهكتها حتّى غُزِيَت في عقر دارها؛ ولأنّ دولة الفرس كانت قويّةً منيعةً، وزادها الظفر الأخير قوّةً ومنعةً.

ولكنّ الله تعالى أنجز وعده، وتحقَّقت نبوءة القرآن سنة 622م، الموافقة للسنة الثانية من الهجرة المحمّديّة.

وممّا هو جديرٌ بالذكر أنّ هذه الآية نفسها حملت نبوءةً أخرى، وهي البشارة بأنّ المسلمين سيفرحون بنصرٍ عزيزٍ في هذه الوقت الذي ينتصر فيه الروم، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾. ولقد صدق الله وعده في هذه، كما صدقه في تلك، وكان ظفر المسلمين في غزوة بدر الكبرى واقعاً في الظرف الذي صدر فيه الرومان، وهكذا تحقَّقت النبوءتان في وقتٍ واحدٍ، مع تقطُّع الأسباب في انتصار الروم كما علمت، ومع تقطُّع الأسباب أيضاً في انتصار المسلمين على المشركين على عهد هذه البشارة؛ لأنّهم كانوا أيّامئذٍ في مكّة، في صدر الإسلام، والمسلمون في قلّةٍ وذلّةٍ، يضطهدهم المشركون، ولا يرقبون فيهم إلاًّ، ولا ذمّةً([3]).

2ـ ما كان إخباراً عن أمورٍ لم تحصَل حتّى الآن، وقد أَخْبَر القرآنُ بأنّها لن تحصل أَبَداً، كإخبار الله بانتفاء قدرة المخاطَبين بالقرآن وجميع الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل القرآن الكريم، وذلك في قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: 23 ـ 24).

3ـ ما كان إخباراً عن أمورٍ لم تحصَل حتّى الآن، ولكنَّ الله عزَّ وجلَّ قد وَعَد بحصولِها في هذه الدنيا قبل يوم القيامة، كإخبار الله بظهور الإسلام على الدين كُلِّه، واستخلاف المؤمنين في الأرض، حيث قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).

وقال: ﴿وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55).

4ـ ما كان إخباراً عن أمورٍ قد حَصَلَت وانقَضَت، بيد أنّ الله عزَّ وجلَّ يُخبِر أنّه كان قد أطلَعَ نبيَّه عليها قبل وقوعِها، وقد أخبَر بها أصحابَه، ولكنَّ الآيات التي أشارت إليها قد نزلت بعد حدوثها ووقوعها، كإخبار الله أنّه قد أطلع نبيَّه على أنّ المسلمين سيكون لهم أحدُ أمرَيْن: الاستيلاء على القافلة التجاريّة لقريش أو الانتصار على جيشها الكبير، وقد وَعَدَ اللهُ المسلمين، على لسان نبيّه، بأنّ إحدى الطائفتَيْن ستكون لهم، وهذا ما حصل بالفعل، فلمّا فاتهم العير، أي القافلة، كانت لهم الغَلَبة على النفير وهو جيش قريش في حرب بدرٍ وأفرادُه زهاء ألف رجل، وقد قال تعالى في ذلك: ﴿وَإِذْ يَعِدُكُمْ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أنّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أنّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ﴾ (الأنفال: 7).

ولكنَّ الإنصاف أنّ القسم الأخير لا علاقة له بموضوع الإخبار عن الأمور والحوادث المستقبَليّة؛ فإنَّ هذه الآيات تُخبِر عن حوادِث قد وقعت، وإنْ كان رسول الله(ص) قد أخبَر بها قبل وقوعها بما أطلَعَه الله عليه من علم الغَيْب، ولكنَّه لم يطَّلِع عليها بوحيٍ قرآنِيٍّ، بل اطَّلَع عليها بوحيٍ غير قرآنيّ، فلا تكون الآيات من مصاديق الآيات التي تتضمَّن إخباراً بحوادث ووقائع ستقع في المستقبَل، وبالتالي فهي خارِجةٌ عن موضوع إعجاز القرآن من حيث اشتمالُه على الإخبار بالغيبيّات، فلا ينبغي ذكرُها هاهُنا.

كما أنّ القسمَيْن الثاني والثالث لا يصلحان كشواهِد على إعجاز القرآن الكريم، وأنّه من عند الله؛ إذ لعلَّ قائلاً يقول: أنّ ما أخبَر الله به لن يتحقَّق؛ بمعنى أنّ ما أخبَر أنّه لن يحصل أَبَداً قد يحصل في مستقبَل الأيّام؛ وما أخبَر أنّه حاصِلٌ قبل يوم القيامة لا محالة قد لا يحصل، وبالتالي فكيف تكون هذه الأخبار شاهِداً على أنّ هذا القرآن من عند الله؟!

توصيةٌ

ومن هُنا نرى أنّ الأجدر بالباحثين، حين التعرُّض لموضوع إعجاز القرآن من حيث إخبارِه عن الحوادث المستقبَليّة، أن يذكروا الآيات التي أَخْبَر اللهُ بها عن حوادث قد وقعت فِعْلاً بعد نزول تلك الآيات، وتكون تلك الآيات شاهِداً لا غبار عليه على إعجاز القرآن، وأنّه من عند علاّم الغيوب.

نعم كُلَّما تحقَّق حَدَثٌ ما ممّا أخبر القرآن به أدخلناه في الآيات الدالّة على إعجاز القرآن.

**********

الهوامش

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الميزان في تفسير القرآن للطباطبائيّ 1: 60 .

([2]) هذه الآيات جمعناها من الكتب التالية: التبيان في تفسير القرآن للطوسيّ 1: 106؛ الجواهِر الحسان في تفسير القرآن للثعالبيّ 1: 55؛ الجامع لحكام القرآن للقرطبيّ 1: 75؛ أصول الدين للحائريّ: ؟؛ آلاء الرحمن للبلاغيّ 1: 46؛ إعجاز القرآن للباقلانيّ: 48؛ تفسير المنار لرشيد رضا 1: 170.

([3]) مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقانيّ 2: 482 ـ 483.



أكتب تعليقك