مآلات الأحداث المعاصرة وفق السنن الإلهية القرآنية
بدعوة من جمعية التعاون الخيرية
أقيمت ندوةٌ إلكترونية بعنوان:
“مآلات الأحداث المعاصرة وفق السنن الإلهية القرآنية”
لسماحة الشيخ محمد عباس دهيني
بتاريخ: السبت 4 / 10 / 2025
الساعة 9:00 مساءً بتوقيت بيروت
أدار الندوة: د. كرار مهدي الربيعي
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدنا محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
السلامُ عليكم، أيّها الإخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات، ورحمةُ الله وبركاتُه. ويسعدني ويشرِّفني أن أكون بينكم ومعكم في هذا اللقاء الثقافيّ بدعوةٍ كريمةٍ من جمعية التعاون الخيريّة في العراق، التي أتقدَّم منها بالشكر الجزيل، ولا سيَّما الأخ العزيز الدكتور كرّار الرَّبيعي، على هذا التعريف وكافَّة ما بَذَلَه من جهدٍ لإنجاح هذا اللقاء، الذي نرجو أن يكون مثمراً ومفيداً.
وتستمرّ المواجهةُ بين مستَكْبِرٍ ومستَضْعَفٍ، منذ بَدْء الخلق، حيث استصغر واستضعف إبليسُ آدم(ع)، ورفض السجود له عُلُوّاً واستكباراً، فنال ما ناله من العقاب والخِزْي الإلهيّ، فحَقَد على آدم حتّى أخرجه من الجنّة، كما حَقَد على ذُرِّيّته، فترصَّد لإغوائهم.
وهكذا طالت المواجهةُ، واحتدم الصراعُ بين فريقَيْن: المُستَكْبِرون والمُستَضْعَفون، مُستَكْبِرٌ يرى في قوّته وقدرته وإمكاناته، ولا سيَّما الماليّة والعلميّة، المسوِّغَ والمبرِّرَ للظلم والاعتداء على فقيرٍ جاهلٍ ضعيفٍ لا يملك مِثْلَ ما يملكه أولئك الطغاة والجبابرة والفراعنة والنماردة، فاستَضْعَفوه، واعْتَدَوْا عليه، وسَلَبُوه حَقَّه.
وهكذا كان لكلِّ زمانٍ نُمْرُوده، ويقابله إبراهيم(ع)، ولكلِّ عصرٍ فِرْعَوْنه ويقابله موسى(ع)، ولكلِّ حِقْبة أَبْرَهةٌ وأصحابُ فيلٍ (دبابةٍ أو طائرةٍ) ويقابلها طيرٌ أبابيلٌ من عند الله، أو رجالٌ فرسانٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لا يخافون في الله لَوْمَةَ لائمٍ ولا يخشون أحداً إلاّ الله، وإذا قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران: 173 ـ 175).
لن أُطيل في مقدِّماتٍ وممهِّداتٍ قد تكون معروفةً واضحةً لديكم: وخلاصتُها: الاستكبارُ موجودٌ بصورٍ شتّى، ومصاديقُه متعدِّدة، وفي طليعتها: (إسرائيل)، ويقابله محورٌ مقاومٌ آمَنَ بحقّانيّة الأُمّة المستضعفة والشعوب المقهورة في مواجهتها مع هذا الاستكبار (وأن فلسطين مغتَصَبةٌ وأن البلاد العربيّة والإسلاميّة واقعةٌ تحت نِيرِ الاستعمار بوجوهٍ مختلفة)، وأنه لا بُدّ من وَقْفة شموخٍ وإباءٍ لاسترجاع الحقّ المغتَصَب (فيجب أن تزول إسرائيل من الوجود)، ولاستعادة الحُرِّية والسيادة والعيش في عِزٍّ وكرامة (فيجب أن يخرج المحتلّ والمستَعْمِر من البلاد كلّها).
وبما أن كُلَّ مَجْريات هذه المواجهة الممتدّة منذ القِدَم إلى يومنا هذا خاضعةٌ للسُّنَن الإلهيّة، التي خضع لها الكَوْن برُمَّته يوم قال عزَّ وجلَّ للسماء والأرض: اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (فصّلت: 11)، كان حَتْماً وحَقّاً أن تتعدَّد أشكال المواجهة، وتتغيَّر وتتنوَّع تَبَعاً للظروف والسياقات والمعطيات الواقعيّة المتوافرة حال تلك المواجهة، فتبدأ ـ كما بدأَتْ مع الأنبياء جميعاً ـ بالحوار الذي رُبَما بلغ مداه، زَمَناً ووضوحاً وحِدَّةً، فمع نوحٍ(ع) استمرّ ألفَ سنةٍ إلاّ خمسين عاماً، ومع إبراهيم(ع) كان واضحاً وصريحاً مع النُّمرود: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنْ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنْ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (البقرة: 258)؛ وكذلك مع قومه وأقربائه: إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنْ اللاَّعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ (56) … (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاَءِ يَنطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ (الأنبياء: 52 ـ 68)، ومع موسى(ع) بلغ في الحِدّة والتحدّي مبلغاً عظيماً: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (الشعراء: 23 ـ 30)، لتنتهي بالصدام والاشتباك، الذي يتَّخذ طابع الحصار والهِجْران تارةً: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً (43) يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَانِ عَصِيّاً (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً (46) قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ [لأنه كان يتحدَّث مع أبيه] سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَنْ لاَ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [فهنا كان حِصارٌ واعتزالٌ وهَجْرٌ] (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً (مريم: 41 ـ 49)، كما يتَّخذ طابع الحرب العسكريّة تارةً أخرى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ (الشعراء: 61 ـ 66)، وكما حصل مع نبيِّنا الخاتم محمد(ص) في أكثر من غزوةٍ ومعركة.
في هذه المشهديّة التاريخيّة الكبرى نلحظ كراهةً جَلِيَّةً للبَدْء بقتالٍ، مهما بلغ موقفُ الفريق الآخر، كما نلحظ كَمّاً هائلاً من التوطئة والتمهيد والاستعداد للمواجهة الكبرى، ولو على مستوى التربية النفسيّة والتوعية الفكريّة؛ ليكون المؤمنون على بيِّنةٍ من الأمر والمآل، فالنقاشُ مفتوحٌ وأمامَ الملأ، وليسمَعْ كلُّ الناس، وليس هناك حواراتٌ ومفاوضاتٌ خلف الأبواب المُغْلَقة.
وفي الوقت نفسه نلحظ حجم الإذعان للواقع القائم، فقَبْلَ توفُّر الظروف المناسبة والإمكانات الكافية لا ثورةَ ولا خروجَ ولا قتالَ، وإنما هي مواجهةٌ تستنفد كلَّ أشكال المعارضة السِّلْميّة المتاحة والمقبولة عَقْلاً وعُرْفاً، وبالترتيب والتدريج الهادف البَنّاء. ليس خَوْفاً وهُمْ رُسُل الله: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً [هذه هي صفتُهم لا يخشَوْن أحداً] (الأحزاب: 39)، وإنّما هو العقل والوَعْي والإدراك والالتزام بحُرْمة إلقاء النَّفْس في التَّهْلُكة.
هذه المواجهةُ بجميع مراحلها كانت خاضعةً للسُّنَن الإلهيّة الحاكمة في الأُمَم كافّةً، لا تتبدَّل ولا تتحوَّل: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلاً (فاطر: 43)، لا تتبدَّل أي لا تتغيَّر في ذاتها، ولا تتحوَّل تَبَعاً للأحوال المختلفة والجهات المتعدِّدة والمعطيات المستجِدّة، فهي على حالٍ واحدةٍ كما أرادها الله، منذ بَدْء الخَلْق وإلى يوم القيامة.
ولئن كانت معجزاتُ الأنبياء(ع) على خلاف هذه السُّنَن الظاهرة فقد جَرَتْ وَفْق سُنَنٍ أخرى غيرِ معتادةٍ ولا معروفةٍ، لكنها وفق سُنَنٍ، فهي خارجةٌ عن المألوف والمعتاد والمتعارَف، وليست خارجةً عن السُّنَن الإلهيّة، وإنما هناك سُنَنٌ ظاهرةٌ؛ وسُنَنٌ خفيّة. إذا كانت معجزة الأنبياء قد جَرَتْ وَفْقَ هذه السُّنَن الخَفِيّة، دون السُّنَن الظاهرة، فإنّه مع نبيِّنا الخاتَم(ص) ارتفَعَتْ المعجزاتُ الحاضرةُ الباهرةُ، كما رُفع العذابُ الفوريّ عن أُمَّته، وعليه فالمدار على السُّنَنِ الإلهيّةٍ الظاهرةِ المعروفةِ فقط لا غير، وأيُّ توقُّعٍ خارجَ هذه السُّنَن محكومٌ سَلَفاً بالخَيْبة والفَشَل. وبعد هذا الكلام المقدِّمة نصل إلى صلب الموضوع هاهُنا، فنقول:
إن هذه السُّنَن الظاهرة الحاكِمة هي سُنَنٌ كثيرةٌ جدًّا، تَتَشَعَّب وتَتَداخَل وتَتَشَابَك وتَتَوَاشَج، في صناعةٍ إلهيّةٍ ربّانية مُتْقَنةٍ؛ لتكوين المَشْهدية العامّة والكاملة. ولا يَسَعنا في هذه الوَقْفة السريعة أن نستعرضها كُلَّها، فنقتصر على أهمِّها وأبرزها:
1ـ سُنَّةُ وجود المستكبِر والطاغي والظالم
ففي كُلِّ زمانٍ يوجد أمثالُ هؤلاء، وإنْ اختلفَتْ أحجامُهم، بَدْءاً من قابيل الذي قتل أخاه البريءَ المسالِمَ ظُلْماً وعدواناً، إلى يومنا هذا، وإلى يوم القيامة: لكلِّ زمانٍ فرعونُه، الذي تتجلّى فيه صفاتُ ذاك الفرعون الأكبر، الذي لم يكتفِ بادِّعاء الربوبيّة، وإنما َحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (النازعات: 23 ـ 24)، ولذلك وصفه اللهُ فقال: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (القصص: 4)، [فمَنْ اجتمعَتْ فيه هذه الصفات فهو فرعونُ عصره، كائناً ما كان موقعه]. وفي المقلب الآخر هناك:
2ـ سُنَّةُ العُلُوّ بالإسلام والإيمان
فالإسلامُ يعلو ولا يُعْلَى عليه، فهو الظاهرُ على الدِّين كلِّه، ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون.
وأما المسلمون والمؤمنون فهم المنتصرون الغالبون الوارثون، بشرطٍ واحدٍ: أن يكونوا مؤمنين، بحقٍّ وصدقٍ، تمامَ الإيمان، ولا تكفي الدعاوى، وإنما العُمْدةُ واقعُ الحال: وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (آل عمران: 139). هذه سُنَّةٌ إلهيّةٌ ثابتة راسخة دائمة باقية، وهذه حقيقةٌ لا رَيْبَ فيها، إلاّ أن عدم تحقُّق الشَّرْط يفتح الباب لسُنَّةٍ أخرى، ألا وهي:
3ـ سُنَّةُ الابتلاء
يختبر اللهُ عبادَه لتظهر مواقفُهم جميعاً، ويميز الخبيثَ من الطيِّب، ولئلاّ يكون للخبيثِ مَقالٌ وجِدالٌ واعتذارٌ: لو كُنْتُ لفَعَلْتُ، فعندما يتخاذلُ المؤمنون ظاهراً أو المتظاهرون بالإيمان ـ وقد يكونون الأكثريّةَ ـ تنقطع أسبابُ النصر، وتكون الهزيمةُ، وقد تكون هزيمةً نكراء، تزيغُ عندها الأبصار، وتبلغُ معها القلوبُ الحناجر، حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ [ويأتي الجوابُ من الله:] أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ (البقرة: 214)، الرسول يقول، ومَنْ معه يقولون، فئةٌ قليلةٌ في مقابل أكثريّةٍ، والسياقُ والمسارُ لصالح الأكثريّة، لكنْ مَنْ هم هؤلاء الذين آمنوا معه؟ الذين آمنوا معه هم الذين وَصَفَهم عزَّ وجلَّ فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ (الفتح: 29) [هذا هو هدفهم هذه هي غايتُهم فقط لا غير، لا تجارة ولا مال ولا منصب ولا موقع]، وفي آيةٍ أخرى أَمَر اللهُ هؤلاء الذين مع النبيّ(ص) بما شاب لهَوْله شَعْرُ خاتَم الأنبياء والمرسلين(ص) [الذي قال: شيَّبتني [سورة] هود]، فماذا يوجد في هذه السورة؟ إنها عبارة: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [وقد بيَّنَتْ أركانَ الاستقامة الآياتُ التالية:] (112) وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمْ الصَّلاَةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ [الصلاة التامّة، بأركانها وشروطها وآثارها: إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ] إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (هود: 112 ـ 115). إذن هي سُنَّة الابتلاء والاختبار والامتحان: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحديد: 25)؛ فحتّى مع وجود النبيّ أو الوليّ(عما) إذا كانت الأكثريّةُ متخاذِلةً متقاعِسةً فلا نصرَ ولا فلاحَ، بل هزيمةٌ وانكسارٌ، كنتيجةٍ حَتْميّةٍ لـ:
4ـ سُنَّةِ المُدَاوَلة
إذ لا نصرَ دائماً [وهذا ما ينبغي أن يكون في أذهاننا وعقولنا دَوْماً، وأن يكون خطابُنا تحت هذا السقف، لا فوقه]، ولا هزيمةَ مستمرّةً، وإنّما الدنيا دُوَلٌ بين الناس والجماعات، وكلٌّ يتحرَّك صعوداً أو هبوطاً:
لِكُلِّ شَيْءٍ إِذَا مَا تَمَّ نُقْصَانُ *** فَلاَ يُغَرَّ بِطِيبِ العَيْشِ إِنْسَانُ
فالمرءُ لا بُدَّ أن يتحرَّك، صعوداً إلى رأس الهَرَم، فإذا وصل فهي بداية النزول؛ إذ لن يطير في الهواء، فالحركةُ التالية هي الهبوط:
هِيَ الأُمُورُ كَمَا شَاهَدْتُها دُوَلٌ *** مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءَتْهُ أَزْمَانُ
يستوحي الشاعر قولَ الله جلَّ وعلا: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [لماذا؟] وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (آل عمران: 140)، وهو ما يشير إلى:
5ـ سُنَّةِ الاشتراك في النتائج
فليس من مواجهةٍ تكون نتائجُها، الإيجابيّةُ أو السلبيّةُ، صافيةً تماماً وبالكامل لفريقٍ دون آخر، فكلا الفريقين يشتركان في النتائج، ويتقاسمانها، ولو بغير استواءٍ. هذا كلُّه فيما لو جَرَتْ سُنَّةُ الابتلاء، وأما لو عُدْنا إلى سُنَّة العُلُوِّ بالإسلام والإيمان فهنا نشهد جملةً من السُّنَن الحاكمة، ومنها:
6ـ سُنَّةُ الزيادة عند الشُّكْر
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (إبراهيم: 7)، ولكنْ أيُّ شكرٍ يستوجب الزيادة؟ الشكر شكران: قوليّ؛ وعمليّ، وما أكثرَ الشاكرين بألسنتهم!؛ إذ هو أمرٌ سهلٌ بسيط، وما أقلَّ الشاكرين بالعمل والسلوك!: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (سبأ: 13) [الذي يشكر بالعمل قليلٌ، وليس كثيراً]، ونقيض الشُّكْر الكُفْر، وجزاؤُه العادل العذابُ الشديد، يستمرّ باستمرار الكُفْر، ويتكرَّر كلَّما عاد الناس أو المجتمع إليه، وهذا هو مقتضى:
7ـ سُنَّةِ ديمومة وتكرار الجزاء
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا (الإسراء: 8) [مهما تكرَّر الشرط فسوف يكون الجزاءُ هو نفسه]، سَلْباً أو إيجاباً. ولا فَيْضَ من الله، ولا نعمةَ من الله، إلاّ بعد موقفٍ عمليّ يؤكِّد الصدق والإخلاص في المواجهة، وهذه هي:
8ـ سُنَّة الفَيْض بعد اعتزال الباطل
ففي قصّة إبراهيم(ع): فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ [أي بدأ سلوكاً عمليّاً] وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً (مريم: 49)، فالجزاء لا يكون إلاّ بعد العمل، ولا يكفي العَزْمُ والنيّة.
وإذا تطوَّرَتْ الأمور، وتتالَتْ الأحداث، واقتربَتْ المواجهةُ الحاسمة، فقد يُدْعَى المؤمنُ إلى السلام، وهنا كان:
9ـ الأمرُ الإلهيّ بالاستجابة لدعوة السَّلام
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ [قد تظنّ أنهم يريدون خداعك، واللهُ ملتفِتٌ إلى هذه النقطة] فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (الأنفال: 61 ـ 63)، فحتّى لو كُنْتَ تعرفُ أنهم كاذبون مخادعون لا تقُلْ لهم: لا، وإنّما قُلْ: نعم، واحْذَرْ، قُلْ: نعم، ورَتِّبْ شروطَكَ الموضوعيّة العقلائيّة البيِّنة، التي لا يستطيع عاقلٌ منطقيٌّ أن يرفضها. قد يرفضها أولئك الطُّغاة، ولكنّ الناس ستكتشف حقيقتهم، وهذا نصرٌ في حَدِّ ذاته، نصرٌ معنويٌّ كبير، حيث يُفْتَضَح الكاذبُ والطاغيةُ والظالمُ. تلك بُرْهَةٌ من الزمن، تلك فرصةٌ ثمينةٌ للعاملين المُجِدِّين، يستغلّونها في ما يلزمهم استجابةً لـ:
10ـ الأمرِ بالإعداد الأكمل والتجهيز الأتمّ، غاية المستطاع
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمْ اللهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (الأنفال: 60). أَعِدُّوا كلَّ ما تستطيعونه من قوَّةٍ، مهما بلغَتْ من عددٍ في الرجال أو الخيل أو المركبات أو الدبابات أو الطائرات أو المعدّات القتالية، أَعِدُّوا كلَّ شيءٍ، أَعِدُّوا بجِدٍّ وإخلاصٍ وقوّةٍ، وقَدْر المُسْتَطاع؛ لا يجوز أن تَهِنوا، لا يجوز أن تضعفوا، لا يجوز أن تتواكلوا، لا يجوز أن تقصِّروا. وبالاستجابة لهذا الأمر والالتزام بغيره من الأوامر والسُّنَن تتحقَّق:
11ـ سُنَّةُ النصر الإلهيّ المؤزَّر
إذا استجبنا لهذه السُّنَن فالسُّنَّة التالية متحقِّقة حتماً، وهي سُنَّة النصر الإلهيّ الربّانيّ المؤزَّر (النصر من عند الله): وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (الحجّ: 40)؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [لكنّه شرطٌ يليه الجزاء] (محمد: 7)؛ إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (آل عمران: 160) [وأقصى ما يرجوه المؤمن أن يكون اللهُ معه، وإلاّ فكُلُّ العُدّة أو العَدَد لا ينفع، فالمهمّ أن يكون الله معه، وعندها تكون تلك الأمور من النافعات]. وما النصر إلاّ من عند الله، لكنّه لا يكون إلاّ بالعمل والجهاد والتضحية في سبيل الله، عندها تتجلَّى:
12ـ سُنَّةُ عدم ضياع العمل
وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ (التوبة: 105)، فالعملُ مهما كان صغيراً أو كبيراً لا يضيع عند الله، ويُرى أَثَرُه ولو بعد حينٍ، عاجلاً أو آجلاً، فالمؤمنون ـ ولو في الأجيال اللاحقة ـ سيرَوْن هذا العمل، وسيعرفون قَدْرَه وقَدْر صاحبه (طبعاً هناك تفاسير أخرى باطنيّةٌ وغيبيّةٌ لهذه الآية، لكنّ مثلَ هذا التفسير الظاهر هو النافعُ والمفيدُ). ولا مجال هاهُنا للتقصير أو الإهمال في العمل، فالعملُ النافعُ والمُجْدي هو الخاضعُ لـ:
13ـ سُنَّةِ التوكُّل على الله
دون التواكل، وبينهما حدٌّ فاصلٌ رقيقٌ ودقيقٌ كالشَّعْرة، والمطلوب هو التوكُّل، والمرفوض هو التواكل: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (الطلاق: 3). فإنْ عَصَوْا وتمَرَّدوا، ولم يلتزموا الأمر، ولم يحفظوا هذه السُّنَن جَرَتْ:
14ـ سُنَّةُ الاستخلاف
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (الأنعام: 133)؛ فَإِنْ تَوَلَّوْا [أي فإنْ تَتَوَلَّوْا] فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (هود: 57)؛ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ (النور: 55). وهذا هو الجزاءُ العادل الحكيم لمَنْ ضرب بسُنَن الله عَرْضَ الجدار، وأعرض عنها، واتَّبَع هواه: أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (الجاثية: 23). وهذا ـ للأسف الشديد ـ هو واقعُ حال كثيرٍ من الناس الذين يتَّبعون الهَوَى، يتَّبعون ما تمليه عليه نفوسُهم، وقد تكون هذه النفوس أمّارةً بالسوء، لماذا تفعلون ذلك؟! ألم يصلكم حديثُ:
15ـ سُنَّةِ ذهاب الرِّيح بالفُرْقة والتنازع؟!
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا (آل عمران: 103)؛ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال: 46). هذه الآياتُ نسمعها ليلاً ونهاراً، هذه الآيات موجودةٌ في المصاحف المخزونة في مكتبات بيوتنا، هناك عشرات النُّسَخ من القرآن الكريم، ونقرأها في شهر رمضان، وقد نختم القرآن أكثر من مرّةٍ، لكنْ لماذا لا نتدبَّر؟ لماذا لا نتفكَّر؟ لماذا لا نعمل بهذه الآيات؟ ألم يصلكم مثلُ هذا الحديث: حديث سُنَّةِ ذهاب الرِّيح بالفُرْقة والتنازع؟! ألم تتعرَّفوا على:
16ـ سُنَّةِ غضب الله على المنافقين
لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ [هؤلاء الذين يثبِّطون العزائم] لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً [لا بُدَّ أن تطردهم] (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب: 60 ـ 62). نعم، هذه من السُّنَن الإلهيّة الواضحة الجَلِيّة. ألم تسمعوا بـ :
17ـ سُنَّةِ كفاية المؤمنين المُخْلِصين
وأن فيهم الكفاية والغنى عن الخَوَنة والمرتَزِقة والطامعين: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ (الأنفال: 64)، ودَعْكَ من هؤلاء المذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، دَعْكَ من الخَوَنة، دَعْكَ من المرتزِقة، دَعْكَ من الطامعين، دَعْكَ من المتزلِّفين، دَعْكَ من الذين يأتون للغنائم، دَعْكَ من هؤلاء جميعاً. ثمّ ألم تشهدوا بأمِّ أعينكم، مِراراً وتَكراراً:
18ـ سُنَّةَ الترابط الوثيق بين الداخل والخارج
وهذه من أهمّ السُّنَن في هذا المجال. فإذا أرَدْتَ أن تتفرَّغ للحرب الخارجيّة فعليكَ ترتيبَ الداخل تماماً، وقد يعوقُكَ أو ينهكُكَ ذلك، لكنْ لا حربَ خارجيّةَ مضمونةَ النتائج إلاّ بعد ترتيب الداخل. وتجربةُ النبيِّ الأكرم(ص) ماثلةٌ للقاصي والداني؛ إذ لم يقبل بَيْعةَ أهلِ يثرب إلاّ بعد أن أتمُّوا الصُّلْح بين قبيلتَيْ الأَوْس والخَزْرَج، كما كان أوَّلُ أعماله بعد الهجرة إلى المدينة المؤاخاةَ بين المهاجرين والأنصار، ثمّ إعدادَ (وثيقة أو صحيفة المدينة)؛ لتنظيم العلاقات بين مختلف الأطياف (المهاجرون والأنصار واليهود)، وفيها حُدِّدَتْ الواجبات والحقوق للجميع؛ بهدف تحقيق السلام والوحدة والتعايش المشترك في مجتمعٍ متعدِّد الأديان والأعراق، ولمّا نقض اليهود التزامهم بهذه الوثيقة التاريخيّة سارع لقتالهم؛ تأميناً للجبهة الداخليّة؛ فإنه إذا لم يقاتلهم فوراً، وحدث خَلَلٌ في جبهته الداخلية، فلن يستطيع أن يتفرَّغ لقتال قريش أو لقتال أَحَدٍ خارج المدينة. وهكذا فعل أميرُ المؤمنين عليٌّ(ع)، الذي انشغل بالجبهة الداخليّة تماماً، وبَرَدَتْ تماماً في فترة حكمه الجبهةُ الخارجيّة. ألم تقرأوا وتتدبَّروا:
19ـ الأمرَ الإلهيّ بالتشاور مع أهل الخبرة والنصيحة
هو نبيٌّ، بل خاتم الأنبياء، بل سيّد الأنبياء، بل سيّد بني البشر، ومع ذلك يقول له: شَاوِرْهُمْ، شاوِرْ أهل الرأي، أهل الخبرة، أهل النصيحة، أصحاب التجربة، مَنْ كان لهم علمٌ ودرايةٌ، وليس كلَّ أحدٍ حتّى الذي لا يُحْسِن طرح فكرةٍ أو فكرتين، شاوِرْهم ثم يكون المسار وَفْقَ عِزْمِكَ يا رسول الله: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (آل عمران: 159).
المآلات رَهْنُ التغيير
أيُّها الأحبّة، بعد هذا العرض السريع والموجَز لتسع عشرة سُنَّةً من السُّنَن الإلهيّة، ونكتفي بها؛ إذ الوقت قصير، وفيها الكفاية والغنى إنْ شاء الله، نستطيع أن نقول: إن مآلات الأحداث الجارية اليوم في منطقتنا رَهْنٌ بهذه السُّنَن أجمع، ونركِّز على مسار النصر فهو المحبوبُ والمطلوبُ والمرتجى، وهو وعدُ الله لعباده المؤمنين، واللهُ لا يُخْلِف الميعاد.
ولتحقيق هذا النصر لا بُدَّ من خطوات نختصرها فيما يلي:
1ـ قراءةٍ موضوعيّة ودراسةٍ تحقيقيّة للمعطيات والظروف الواقعيّة، بعيداً عن لغة الإعلام والإعلاميّين (البروباغندا الإعلامية)، بعيداً عن الأماني والأحلام لهذا وذاك، وإنما يُلْجَأ إلى أهل الخِبْرة والمتخصِّصين، ولو كانوا من غير المطبِّلين والمتزلِّفين [ولا مشكلة في أن يختلفوا معنا في بعض الأفكار، فما داموا أهل خبرةٍ واختصاصٍ نستفيد من خبرتهم ومشورتهم]؛ فلا نتيجةَ صادقةً إلاّ بمثل هذه الدراسات والتحقيقات، وكلُّ ما عدا ذلك حَفْنةٌ من الأوهام، سُرْعانَ ما يتبدَّى كَذِبُها، وتظهر هشاشتها.
والأهمُّ بعد هذه القراءة والدراسة العملُ بمفادها [وليس المهمّ أننا أجرَيْنا دراسةً تحليليّةً وقراءةً نَقْديّةً، ثمّ بقيَتْ في الأدراج طيّ الكتمان أو بقيت مجرّد دراسةٍ نظريّةٍ، فالمهمّ العملُ والسلوكُ]، وترتيبُ الأثر عليها، ولو كان خلافَ الرغبة، فإنْ أظهرَتْ استعداداً وجُهُوزيّةً للحرب فلتكُنْ الحرب، وإنْ تبدّى النقص والفشل في الحكم والإدارة والتخطيط والاستعداد، بل رُبَما يظهر العجزُ عن ذلك كلِّه [وقد يكون عجزاً مستشرياً، لأسبابٍ موضوعيّةٍ، تحتاج إلى وقتٍ طويلٍ للإصلاح والتدارك، ودَعْكُم من هذه الأوقات القصيرة على طريقة بعض المستعجلين، شهر وشهرين وستّة أشهر وسنة، في بعض الأحيان يحتاج الإصلاح والتدارك إلى مدّة زمنيّة طويلة، ثلاث أو أربع أو خمس وربما عشر سنوات، أما لماذا تأخَّرْنا ولم نعمل في سابق الزومان فهذا شيءٌ آخر، يستلزم محاسبة ومعاقبة، لكنْ لا بُدَّ من مرور هذا الوقت، ولا مجال للاستعجال هاهُنا، فإذا ظهر العجز عن ذلك]، ويكون الأصلحُ هدنةً أو صُلْحاً، فلتكُنْ الهدنةُ أو الصلحُ المؤقَّت [وهذا مهمٌّ جدّاً؛ لا صلح دائماً بين مستَكْبِرْ ومستَضْعَفٍ، وإنما هو صلحٌ مؤقَّتٌ، تُلتَقَط فيه الأنفاس، وتحفظ فيه النفوس، ويمكن أن يُستَغَلّ في التجهيز والإعداد لمستقبلٍ مشرقٍ وواعدٍ]؛ فالمهمُّ أن تبقى القضيّةُ حيّةً، ولو في القلوب، وكذلك مَنْ يحملُ القضيّةَ، ويحفظُها وينقلُها من جيلٍ إلى آخر، فالقضيّةُ حيّةٌ بحياةِ رجالها وأبطالها؛ إذ هم حَفَظَتُها، ولكنّ القضيّةَ وَحْدَها بذاتها لا تحفظ الرجال.
2ـ الارتباطِ بالله شُكْراً لأَنْعُمِه [شكراً عمليّاً]، واعتزالاً للباطل، وتنفيذاً لأوامره بالجُنوح للسَّلام مع الحَذَر والاستعداد غاية المُسْتَطاع، ونَصْراً لدينه وعباده، وتوكُّلاً عليه، دون تواكُلٍ أو تخاذُلٍ. هذه جملةٌ قصيرةٌ، لكنّها تختزن أغلب ما ذَكَرْناه من السُّنَن.
3ـ رصِّ الصفوف كالبنيانِ المرصوص، وقطعِ دابِرِ المنافقين، والخَوَنة والمرتَزِقة والطامعين، في عمليّة إصلاحٍ شاملٍ للداخل؛ كي يتفرَّغ المؤمنون المُخْلِصون لمواجهةٍ حقيقيّةٍ جادّةٍ في كافّة الجبهات الخارجيّة.
هكذا يتحقَّق النَّصْر بإذن الله، وبغير ذلك هي الهزيمةُ والانكسارُ والخَيْبة أمام عَدُوٍّ جَبّارٍ متغطرسٍ متوحِّشٍ لا يمُتُّ إلى الإنسانيّة بصِلَةٍ.
ليس الزمنُ زمنَ معجزاتٍ وخوارق، وإنْ كان الله على كلِّ شيءٍ قديراً، فالزمنُ كلُّ الزمن للوقائع والحقائق والموجود المحسوس، هذه سُنَّةُ اللهِ في خَلْقِه، وهذا حُكْمُه في أَحَبِّ عباده، وأشرفِ مخلوقاته، فهذا النبيُّ محمّدٌ(ص) ـ ومَنْ أشرف منه؟! ـ ينتصر في بدرٍ، مع بعض الخسائر (إذ لا انتصارات دائمةً وصافيةً)، ولكنّه يُهزَم في أُحُد وهو رسولُ الله الأكرم، مع بعض الغنائم (إذ لا هزائمَ كاملةً)، عندما لم تتوفَّر معطيات النصر المؤزَّر، لم تقاتِلْ معه الملائكةُ، ولم يأتِه النصرُ مضموناً وبالمَجّان، وإنّما كان لا بُدَّ من العَدَد والعُدَّة، فمتى توفَّرَا كان النصرُ نتيجةً طبيعيّةً وواقعيّةً وَفْقَ السُّنَن الإلهيّة الثابتة والخالدة.
أيُّها الأحبّة، تلك بعضُ الخلاصات والحلول لمسارٍ طويل من المواجهة بين الحقِّ والباطل، بين الخَيْر والشَّرّ، بين المستكبِرين والمستضعَفين، مسارٍ لن يتوقَّف ولن ينقطع مهما طال الزمن، وما علينا سوى أن نستعدّ ونتهيّأ لنكون القادرين على أن نصنع نصراً وعِزّاً وكرامةً وسيادةً وحُرِّيةً واستقلالاً يليق بنا كمسلمين ومؤمنين وعبادٍ لله صالحين.
أشكرُ حضورَكم جميعاً، وأعتذرُ لكم عن الإطالة في الكلام، والتقصير في المادّة أو العَرْض، والسلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه.



