1 فبراير 2014
التصنيف : برامج تلفزيونية (إعداد وتقديم)
لا تعليقات
2٬969 مشاهدة

الحلقة 11 من برنامج (آيات)، على قناة الإيمان الفضائية: (الفقير)

011-دعاية برنامج آيات3

(بتاريخ: الثلاثاء 21 ـ 1 ـ 2014م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين.

مشاهدينا الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

يقول الله عزَّ وجلَّ في محكم كتابه: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (البقرة: 271) (صدق الله العليّ العظيم).

وقع الفقير والمسكين موضوعاً لجملةٍ من الأحكام الشرعيّة الإلزاميّة وغير الإلزاميّة.

فلا يجب الحجّ على الفقير؛ لقوله تعالى: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾ (آل عمران: 97).

ويسقط الجهاد عن الفقير؛ لقوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ﴾ (التوبة: 91).

كما كان للفقير حضورٌ في أحكامٍ أخرى، حيث عُدَّ من مصارف الصدقات، بما يشمل الزكاة السنويّة الواجبة وزكاة الفطرة وكذلك الصدقات المستحبّة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ الله﴾ (التوبة: 60).

وكذلك يعتبر الفقير من مصارف الخمس: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ (الأنفال: 41).

ومن مصارف الهدي: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ (الحجّ: 27 ـ 28)، ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ﴾ (الحجّ: 36).

ومن مصارف الكفّارات لعدّة من المخالفات الشرعيّة، كحنث اليمين، والظهار، وقتل الصيد حال الإحرام، والإفطار العمدي في شهر رمضان وقضائه: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمْ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ (المائدة: 89).

﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾ (المجادلة: 3 ـ 4).

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ﴾ (المائدة: 95).

والفقير مصرفُ فدية العجز عن الصيام: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ (البقرة: 183 ـ 184).

فمَنْ هو الفقير؟ وما هو الفرق بينه وبين المسكين؟ قبل تفصيل الكلام في ذلك نستمع وإيّاكم ـ مشاهدينا الكرام ـ إلى هذا التقرير، فلنتابعه.

1ـ ما هو المعيار لتحديد الفقير؟

أشار البعض في التقرير إلى أنّ الفقير فقير العقل، ولكنّ هذا معنى مجازيٌّ، لن نتعرَّض له في هذه العجالة.

فمَنْ هو الفقير الذي تقدَّم أنّه حاضرٌ مقصودٌ في عدّةٍ من الأحكام الشرعيّة؟ وما هو الفرق بينه وبين المسكين؟

في الآيات التي تحدِّد مصارف الزكاة (وهي الصدقات) نلاحظ عطف المساكين على الفقراء: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ (التوبة: 60)، ما يعني أنّ هناك تغايراً واختلافاً بينهما، لأنّ العطف بالواو يقتضي التغاير أصالةً، إلاّ أن تكون قرينةٌ تدلّ على اتّحاد المعنى، فيكون عطفَ تفسير.

ومن هنا ذهب العلماء إلى أنّ الفقير هو مَنْ لا يملك قوت سنته، وأمّا المسكين فهو أشدّ فقراً وفاقةً من الفقير، وربما لم يكن يملك مؤونة شهره، أو مؤونة أسبوعه، أو مؤونة يومه.

وللعلماء كلمة لطيفةٌ هنا حيث قالوا: «الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا»، أي إذا اجتمعا في جملةٍ وكلام واحد افترقا في المعنى، وإذا افترقا، أي استخدم أحدهما فقط في جملةٍ، اجتمعا، أي كانا بمعنى واحد، وهو مَنْ لا يملك مؤونة سنته.

وهنا قد يعتقد البعض أنّه ما دام الشخص لا يملك فعلاً حاجة سنته من لباس وطعام وشراب وغير ذلك، أو قيمته، أي ليس هناك في صندوقه أو حسابه ما يغطّي نفقاته لسنةٍ كاملة فهو فقيرٌ. وبالتالي يجوز له أن يأخذ من مال الزكاة والخمس والكفّارة و…

ولكنّ الصحيح الذي أشار إليه الفقهاء في رسائلهم العمليّة، ولكنْ يتجاهله كثيرون، أنّ الفقير هو مَنْ لا يمتلك مؤونة سنته بالفعل، ولا بالقوّة، دفعةً واحدةً، أو بالتدريج.

فمَنْ كان في صندوقه أو حسابه ما يغطي نفقاته لسنةٍ كاملة فهو غنيٌّ.

ومَنْ كان يعمل ويتقاضى راتباً شهريّاً يكفيه لتأمين احتياجاته كافّةً فهو غنيٌّ، مع أنّه قد لا تمرّ عليه فترةٌ يجد في جيبه أو حسابه مالاً يكفي لمصروف سنةٍ كاملة.

ومَنْ كان قادراً على الاكتساب وطلب الرزق بعملٍ مناسب لقوّة بدنه ـ وليس من عملٍ مشين في الإسلام، إلاّ ما حرَّمه الله عزَّ وجلَّ، كبيع الخمر والقمار والربا ونحوها ـ فتَرَك الطلب؛ كَسَلاً وترفُّعاً وكِبْراً، فهو غنيٌّ، لا يحلّ له أن يأخذ قرشاً واحداً من خمسٍ أو زكاة.

وليس لطلبة العلوم الدينية أو المشايخ أو السيّاد ميزةٌ عن غيرهم في هذا المقام. فالخمس والزكاة يتساوى فيها الناس كافّةً، وهكذا شهدنا رسولَ الله(ص) وأميرَ المؤمنين عليّاً(ع) يوزِّعون محتويات بيت المال على جميع المسلمين بالتساوي، ويأخذون لأنفسهم كغيرهم على حدٍّ سواء، فهل لسيِّد أو شيخ أو أيّ إنسانٍ يؤمن بالله وشريعته واليوم الآخر أن يفضِّل نفسه بعد ذلك؟!

ويمكن لطلبة العلم الديني أن يعملوا كما زملاؤهم من طلاّب العلوم الأخرى، ولكنْ في مجال اختصاصهم، ألا وهو العلوم الدينيّة، كالتأليف والتحقيق والترجمة والتصحيح والتعليم والتبليغ ونحو ذلك، وهو كثيرٌ لمَنْ أراده، وأراد وجهَ الله، لا حطامَ دنيا دنيَّة، حُفَّت بالمطامع والشهوات.

وليس الغنيُّ ـ أيّها الأحبّة ـ مَنْ يملك طعامه وشرابه ولباسه بالحدِّ الأدنى فحَسْب. فللإنسان وعياله حاجاتٌ فوق ذلك، ولكنْ ينبغي أن تبقى في إطار المعقول، والمتعارف بين الناس، والحالة الوَسَط في المجتمع، فمَنْ عجز عن تأمين لوازم الحياة الوَسَط فهو فقيرٌ، يُمنَح ما يوصله إلى حدّ الكفاية، لا أكثر من ذلك. وهذا ما نستفيده من قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ﴾ (المائدة: 89).

فليس الفقير مَنْ لا يمتلك الأدنى من لوازم الحياة، بل ربما يكون فقيراً رغم امتلاكه لهذا الأدنى، ولا يصيِّره غنيّاً إلاّ أن يمتلك الأوسط منها.

أما وقد عرفنا معنى الفقير، الذي أمرنا الله سبحانه وتعالى بمساعدته وأداء حقِّه، حيث وصف عباده الصالحين فقال: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (المعارج: 24 ـ 25). فكيف نساعده؟ قبل الإجابة نستمع وإيّاكم ـ مشاهدينا الكرام ـ إلى هذا التقرير، فلنتابعه.

2ـ كيف تساعد الفقير؟

لا تنحصر مساعدة الفقراء والمساكين، بل كلّ محتاج، بوسيلةٍ واحدة. ولو توهَّمنا هذا الانحصار فربما وصلنا إلى ما ذكره البعض في التقرير من أنّ الفقراء والمحتاجين كثرٌ، فلا قدرة لنا على مساعدتهم.

ولكنْ مع تعدُّد السبل والوسائل والآليّات للمساعدة والرعاية والاهتمام فإنّنا سنتمكَّن من مدّ يد العون للجميع، دون استثناء. إلاّ أنّ ذلك يحتاج إلى حكمةٍ، وحسن تدبير، ودقّة تخطيط.

لكي نتمكّن من مساعدة الفقراء جميعاً، لئلا يبقى في هذا العالم جائعٌ أو عريان أو أمّيٌّ، فلا بدّ من تفعيل حسِّ المسؤوليّة في نفوس أفراد المجتمع البشري كافّة تجاه الفقراء والمساكين والمحتاجين، مسؤوليّة التكافل الاجتماعي، من خلال أداء ما أوجبه الله عزَّ وجلَّ من حقٍّ لهؤلاء في أموال الأغنياء الذين يكتنزون المال، ويبقى عندهم لسنةٍ كاملة من غير أن يحتاجوه في مصارف حياتهم، فيجب عليهم أن يدفعوا خُمْسَه وزكاتَه، وفق شروطٍ مقرَّرةٍ في محلّها.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) قوله: «إنّ الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء، فما جاع فقيرٌ إلاّ بما مُتِّع به غنيٌّ، والله تعالى سائلُهم عن ذلك» (نهج البلاغة 4: 78).

إذاً لا بدّ من تفعيل حسِّ مسؤوليّة التكافل الاجتماعي، هذا أوّلاً.

ثانياً: لا يعتقدنَّ أحدٌ أنّ ضريبتي الخُمْس والزكاة لا تكفيان لسداد حاجة الفقراء في المجتمع، فقد رُوي في عدّة من الأخبار الصحيحة «أنّ الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، فلو عَلِم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم، وإنّما يؤتى الفقراء في ما أُوتوا مِنْ مَنْع مَنْ يمنعهم حقوقَهم، لا من الفريضة لهم»([1]).

إذاً المشكلة في الذين يمنعون الماعون. وهؤلاء يمتنعون عن أداء ما عليهم لسببين:

1ـ عدم إحساسهم بمسؤوليّة التكافل الاجتماعي، وعدم إدراكهم لما في هذا العمل من فوائد وآثار طيِّبة على جميع أفراد المجتمع.

2ـ إحساسهم بأنّ المال يوضَع في غير موضعه، ويعطى لغير مستحقِّيه، فيمتنعون عن تسليمه لمَنْ نصَّبوا أنفسهم لاستلامه وإدارة شؤونه.

ومن هنا لا بدّ ـ بعد تفعيل حسِّ مسؤوليّة التكافل الاجتماعي ـ من تطهير الجسم الإداري المسؤول عن جمع الزكاة والخمس وإيصالها إلى مستحقِّيها من كلِّ فردٍ يسيء استعمال هذا المال، ويسيء بالتالي إلى الصورة المشرقة للهدف والغاية التي أرادها الله من هاتين الفريضتين (الخُمْس والزكاة).

ومن الراجح بمكانٍ في هذا المجال أن يُعمَل على تفعيل دور المؤسَّسات والجمعيّات والمبرّات الخيريّة التي ترعى وتتكفَّل تلامذةً وأيتاماً وأرامل ومسنّين، فإنّ قوانينها وإدارتها مضبوطةٌ أكثر بكثير من إدارة أفراد لا خِبْرة لهم، وسرعان ما يسقطون في فخِّ الشهوة والهوى.

كما لا بأس أن تضطلع في عمليّة مساعدة الفقراء لجانٌ أهليّة في كلِّ منطقة؛ فإنّ أهل مكّة أدرى بشعابها، وأهلُ كلِّ منطقة أدرى بالمحتاجين فيها. فلتُستغلّ بعض المناسبات المباركة، كولادة المعصومين(عم) أو وفياتهم، وشهر رمضان المبارك، وعيد الأضحى وغيره من الأعياد، في توزيع حصصٍ تموينيّة على المحتاجين، أو في تسديد أقساط المدارس عن بعض المُعْوَزين.

وهنا ألفت النظر إلى أنّه من الضروريّ أن يُعمَل بالمَثَل القائل: «بدلاً من أن تعطيه سمكةً علِّمْه الصيد». فلو أنّ المؤسَّسات الخيريّة تنطلق من هذا المبدأ، وبدل أن تعطي مَنْ يتقدَّم طالباً المساعدة مبلغاً مالياً زهيداً لا يسدُّ حاجته في غالب الأحيان، فلتسعَ لتأمين فرصة عملٍ مناسب له، بما يجعله في غنىً دائم، وربما أصبح من المحسنين الذين يساهمون في مسيرة التكافل الاجتماعي جزاهم الله خير الجزاء.

أيّها الأحبّة، لا يكاد يخلو بلدٌ من ظاهرة المتسوِّلين المتجوِّلين، فما هو تفسير هذه الظاهرة؟ وكيف ينبغي أن نتعاطى معها؟ لكنْ قبل الإجابة عن هذين السؤالين نستمع وإيّاكم ـ مشاهدينا الكرام ـ إلى هذا التقرير، فلنتابعه.

3ـ ما هو شعورك تجاه المتسوِّلين؟

يتَّهم البعض ـ وكما شاهدنا في التقرير ـ المتسوِّلين أنّهم يمتهنون هذا العمل، ويصفونهم بالسارقين، معتقدين أنّه لا قدرة لنا على كفايتهم؛ لكثرتهم؛ في حين يذهب آخرون إلى أنّ لهؤلاء حقٌّ مثلنا، ويستحقّون الشفقة والرحمة والإحسان، وكلُّنا معرَّضون لما تعرَّضوا له من فقر وعَوَز.

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الفقراء ـ من جهة تعاطيهم مع الناس، وتحصيل المساعدة منهم ـ نوعان:

1ـ نوعٌ يتحلّى بالخجل والحياء، لا يسألون الناس إلحافاً، ولا يطلبون عَوْناً، يحفظون ماء وجوههم، ويضنّون بعزَّتهم وكرامتهم: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *…[فمَنْ هم هؤلاء الفقراء الذي تشجِّع الآية الكريمة على إعطائهم الصدقات؟]…* لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 271، 273).

وهؤلاء يجب على الحاكم والخليفة والأمير ووليّ الأمر أن يُوصِل إليهم ما يحتاجون إليه، ولا ينتظرنَّ منهم أن يتقدَّموا بطلب للمساعدة وبيان الحال. وهذا ما قرأناه في سيرة حاكمٍ عادل استحقّ بجدارة لقب أمير المؤمنين، أعني به الإمامَ عليَّ بن أبي طالب(ع)، الذي كان يخرج ليلاً يطوف على الفقراء في بيوتهم، ويوزِّع عليهم ما يسدُّ حاجتهم، دون أن يشعر به أحدٌ.

وهكذا كان يفعل أيضاً مولانا عليُّ بن الحسين زين العابدين(ع).

ويُنقل عن سيِّد الشهداء الحسين بن عليّ(ع) أنّه وُجد على ظهره يوم الطفّ أثرٌ، فسألوا زينَ العابدين(ع) عن ذلك؟ فقال: هذا ممّا كان ينقل الجراب على ظهره إلى منازل الأرامل واليتامى والمساكين.

2ـ نوعٌ يسأل الناس العون والمال والطعام وما يحتاجه. غير أنّ هؤلاء على قسمين:

أـ مَنْ يقصد المؤسَّسات والجمعيّات والمبرّات والمتصدِّين لإدارة شؤون الأموال الشرعيّة التي يستحقّها هؤلاء الفقراء والمساكين. ويجب على هؤلاء جميعاً مساعدة مَنْ يتقدَّم إليهم؛ تأسياً بسيّد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين(ع)، الذي جاءه أعرابيٌّ فقير، فوجده مصليّاً، فوقف بإزائه، وأنشأ:

لم يخِبْ الآن مَنْ رجاك ومَنْ

حرَّك من دونِ بابِك الحَلَقه

أنتَ جوادٌ وأنتَ معتمَدٌ

أبوكَ قد كان قاتلَ الفَسَقه

لولا الذي كان من أوائلِكُمْ

كانت علينا الجحيمُ منطَبِقه

فسلَّم الحسين(ع)، وقال: يا قنبر، هل بقي من مال الحجاز شيء؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار، فقال: هاتِها، قد جاءها مَنْ هو أحقُّ بها منّا، ثمّ نزع بُرْدَيْه، ولفَّ الدنانير فيها، وأخرج يده من شقِّ الباب؛ حياءً من الأعرابي، وأنشأ:

خُذْها فإنّي إليكَ معتذِرٌ

واعلَمْ بأنّي عليكَ ذو شَفَقه

لو كان في سيرنا الغداة عصا

أمسَتْ سمانا عليكَ مُندَفِقه

لكنَّ ريبَ الزَّمانِ ذو غِيَرٍ

والكفُّ منّي قليلةُ النَّفَقة

فأخذها الأعرابي، وبكى، فقال له: لعلّكَ استقللتَ، قال: لا، ولكنْ كيف يأكل التراب جودَك يا أبا عبد الله؟!

ب ـ مَنْ يستعرض بحاجته وعَوَزه، فيخرج مشهِّراً بنفسه، مادّاً يده، سائلاً كافَّة الناس ما تجود به نفوسهم. وهؤلاء يتكاثرون في المجتمعات يوماً بعد آخر، ما يدعو للرِّيبة في وضعهم، فكأنَّهم يتهرَّبون من أن يقصدوا مؤسَّسة أو جمعيّة أو مبرّةً؛ خوف المساءلة وتحقُّق الحال، فيعمدون إلى الانتشار في المجتمع، في الطرقات والأسواق وأبواب المساجد والبيوت، زرافاتٍ ووحداناً، بناتٍ وصبياناً، نساءً ورجالاً.

والحقيقة أنّ مسؤوليّة مكافحة هذه الظاهرة تقع على عاتق الدولة، التي يجب أن تنسِّق مع المؤسَّسات الخيريّة لاحتواء هؤلاء وإيوائهم، وتعليمهم صنعةً ومهنة، وتأمين العمل المناسب لهم، ليعيشوا حياةً مستقرّة كما بقيّة الناس، ومنْ يصرُّ بعد ذلك على امتهان التسوُّل؛ لأنّه أكثر إنتاجاً، وأقلّ كلفةً وجهداً، فليُمنَع بحكم القانون، قانون الأرض والسماء الذي لا يرضى بهذه المظاهر المبتَذَلة.

اللهمّ أغنِ كلَّ فقير، اللهمّ أشبِعْ كلَّ جائع، اللهمّ اكْسُ كلَّ عُريان، اللهمّ اقْضِ دَيْن كلِّ مَدين، اللهمّ سُدَّ فقرَنا بغناك، اللهمّ اقضِ عنّا الدَّيْن، وأغْنِنا من الفقر، إنّك على كلِّ شيءٍ قدير.

والسلام عليكم مشاهدينا الكرام ورحمة الله وبركاته.

الهوامش


([1]) روى محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي 3: 497، ح1)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن زرارة ومحمد بن مسلم، أنّهما قالا لأبي عبد الله(ع): «أرأيت قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللهِ﴾، أكلّ هؤلاء يعطى وإنْ كان لا يعرف؟ فقال: إنّ الامام يعطي هؤلاء جميعاً؛ لأنهم يقرون له بالطاعة، قال: قلتُ: فإنْ كانوا لا يعرفون؟ فقال: يا زرارة، لو كان يعطي مَنْ يعرف دون مَنْ لا يعرف لم يوجد لها موضعٌ، وإنما يعطي مَنْ لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه، فأما اليوم فلا تعطِها أنت وأصحابك إلاّ مَنْ يعرف، فمَنْ وجدتَ من هؤلاء المسلمين عارفاً فأعطِه دون الناس، ثم قال: سهم المؤلَّفة قلوبهم وسهم الرقاب عامّ، والباقي خاصّ. قال: قلتُ: فإنْ لم يوجدوا؟ قال: لا تكون فريضةٌ فرضها الله عزَّ وجلَّ لا يوجد لها أهلٌ. قال: قلتُ: فإنْ لم تسعهم الصدقات؟ فقال: إنّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أنّ ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتَوْا من قبل فريضة الله، ولكن أُتوا من مَنْع مَنْ منعهم حقَّهم، لا ممّا فرض الله لهم، ولو أنّ الناس أدُّوا حقوقَهم لكانوا عائشين بخير».

وروى محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي 3: 497، ح4)، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد الله بن المغيرة، عن ابن مسكان وغير واحد، عن أبي عبد الله(ع) قال: «إنّ الله عزَّ وجلَّ جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولولا ذلك لزادهم، وإنّما يؤتَوْن من مَنْع مَنْ منعهم».

وروى محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي 3: 498، ح7)، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله(ع) قال: «إنّ الله عزَّ وجلَّ فرض الزكاة كما فرض الصلاة، ولو أن رجلاً حمل الزكاة فأعطاها علانية لم يكن عليه في ذلك عيبٌ؛ وذلك أنّ الله عزَّ وجلَّ فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به الفقراء، ولو علم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم، وإنّما يؤتى الفقراء في ما أتوا من مَنْع من منعهم حقوقهم، لا من الفريضة».

وروى محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي 3: 509، ح4)، عن عليّ بن إبراهيم، [عن أبيه]، عن محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس، عن أبي جعفر الأحول قال: سألني رجل من الزنادقة فقال: كيف صارت الزكاة من كلّ ألف خمسة وعشرين درهماً؟ فقلتُ له: إنّما ذلك مثل الصلاة ثلاث وثنتان وأربع، قال: فقبل منّي، ثم لقيتُ بعد ذلك أبا عبد الله(ع) فسألتُه عن ذلك؟ فقال: «إنّ الله عزَّ وجلَّ حسب الأموال والمساكين فوجد ما يكفيهم من كلّ ألف خمسة وعشرين، ولو لم يكفهم لزادهم، قال: فرجعتُ إليه، فأخبرتُه، فقال: جاءت هذه المسألة على الإبل من الحجاز، ثم قال: لو أنّي أعطيتُ أحداً طاعة لأعطيتُ صاحب هذا الكلام».

وروى محمد بن يعقوب الكليني في (الكافي 3: 556، ح2)، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن عاصم بن حميد، عن أبي بصير قال: قلتُ لأبي عبد الله(ع): إنّ شيخاً من أصحابنا، يُقال له: عمر، سأل عيسى بن أعين، وهو محتاج، فقال له عيسى بن أعين: أما إنّ عندي من الزكاة، ولكنْ لا أعطيك منها، فقال له: ولِمَ؟ فقال: لأنّي رأيتُك اشتريتَ لحماً وتمراً، فقال: إنّما ربحت درهماً فاشتريتُ بدانقين لحماً، وبدانقين تمراً، ورجعت بدانقين لحاجة، قال: فوضع أبو عبد الله(ع) يده على جبهته ساعةً، ثم رفع رأسه، ثم قال: «إنّ الله تبارك وتعالى نظر في أموال الأغنياء، ثمّ نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو لم يكفهم لزادهم، بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوَّج ويتصدَّق ويحجّ».



أكتب تعليقك