6 فبراير 2015
التصنيف : منبر الجمعة
لا تعليقات
4٬455 مشاهدة

الصبر رأس الإيمان: (إنّما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب)

منبر الجمعة-الصبر رأس الإيمان، (إنّما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب)ـ

(الجمعة 6 / 2 / 2015م)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّدٍ، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.

تمهيد

جاء في وصيّة لقمان لابنه، كما حدَّثنا الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾ (لقمان: 17).

«الصبر» مفهومٌ إنسانيّ مهمّ وكبير؛ فالصبر من الركائز الأساسيّة التي يقوم عليها المجتمع؛ إذ لولاه لعاش الأفراد في كلّ مجتمعٍ حالات الانحراف والانهيار، التي سوف تؤدّي بالنتيجة إلى انهيار المجتمع كلِّه.

ومن هنا ركَّز الإسلام على الصبر، سواءٌ في القرآن الكريم أو في السنّة الشريفة.

الصبر في القرآن الكريم

فنحن نقرأ في كتاب الله عزَّ وجلَّ من الآيات ما يدلّ بوضوحٍ على أنّ الصابرين في هذه الحياة الدنيا هم من ذوي الدرجات العليا يوم القيامة.

فها هو الله سبحانه وتعالى يأمر نبيَّه الأكرم محمداً(ص) بالصبر؛ لأنّه من صفات الأنبياء والمرسلين، بل هو صفةٌ تحلَّى بها أفضل الأنبياء وأعلاهم مكانةً: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُو الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 35).

فهذه الخصلة الحميدة هي خُلُقٌ نبويّ حريٌّ بنا أن نلتزم به.

وهكذا نعرف أهمّيّة الصبر من خلال ما جعله الله جلَّ وعلا للصابرين من الثواب والنعيم في الآخرة. فها نحن نقرأ من الآيات ما يبشِّر الله به الصابرين؛ لما سيلاقونه من التعظيم والاهتمام والرعاية والنعيم؛ لقاء ما قاموا به من الصبر في الدنيا. وكلُّنا يعلم أنّ أوّل ليلةٍ يقضيها الإنسان في قبره هي من أصعب الليالي عليه؛ لأنّه يكون في مكانٍ لم يعتَدْ التواجد فيه؛ ولأنّه يلتقي بمَنْ لم يعتَدْ لقاءهم، وهم الملائكةُ الذين يأتونه للحساب والسؤال. ونحن نعرف أنّ الإنسان عندما يلتقي بمَنْ لا يعرف فإنّه يستوحش منه بدايةً، ولكنَّ هذه الوحشة سرعان ما تزول إذا كان ذلك القادم هاشّاً باشّاً، فكيف إذا أُمر بالسلام عليه وإزالة الخوف من نفسه. المؤمنُ الصابر قد أُمرَتْ الملائكة في كلِّ مكانٍ وكلّ زمانٍ بطمأنته، والتسليم عليه، والسَّهَر على راحته: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [رغم ما في هذه الاستقامة من صعوباتٍ وبلاءات، فصبروا عليها جميعاً] تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَنْ لا تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ (فصِّلت: 30 ـ 31).

وهكذا يوم يُجمَع الناس في ساحة المحشر، ويعيش كلُّ واحدٍ الوحشة والغربة، وصولاً إلى حيث يستحقّ، فإنّ الجنّة هي جزاءُ الصابرين، حيث يقول جلَّ وعلا: ﴿أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً﴾ (الفرقان: 75 ـ 76)؛ وفي آيةٍ أخرى: ﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ﴾ (المؤمنون: 111).

وهناك تتلقّاهم الملائكة بالبُشْرى أيضاً، حيث قال عزَّ من قائلٍ: ﴿وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ (الرعد: 22 ـ 24).

وقال اللهُ جلَّ وعلا، وهو يحدِّثنا عن عليٍّ وفاطمة والحسن والحسين(عم)، الذين صبروا على الجوع والعَطَش؛ ليطعموا المسكين واليتيم والأسير، وكلَّ ذلك في سبيل الله: ﴿وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً﴾ (الإنسان: 12).

وقد حصر الله عزَّ وجلَّ دخول الجنّة بالصابرين، فالذي لا صبر له لا يدخل الجنَّة: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (فصّلت: 35).

الصبر في الحديث الشريف

ومن هنا ـ أيُّها الأحِبَّة ـ كان الحديث المعروف في بيان أهمِّيّة الصبر، وأنّه لا قيمة للإيمان ما لم يكن معه صبرٌ، حيث رُوي عن أمير المؤمنين عليٍّ(ع) أنّه قال: «وعليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس معه، ولا في إيمان لا صبر معه»([1]).

وقد جعل اللهُ لكلِّ عملٍ ثواباً معيَّناً بيَّنه وأوضحه، إلاّ الصبر فإنَّه جعل ثوابه مطلقاً، فقال: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (الزمر: 10). فهل نترك هذه الطاعة وهذه الصفة التي تقرِّبنا إلى الله زُلْفى من أجل شهوةٍ نقضيها، وسرعان ما ننسى ما حصلنا عليه من السعادة من خلالها، أو غيظٍ أو ضيقٍ نفجِّره هنا وهناك لنرضي غرائزنا ونفوسنا الأمّارة بالسوء إلاّ ما رحم ربّي؟! علماً أنّ الصبر يعيننا في حياتنا، ويخرجنا ممّا قد نقع فيه من مشاكل ومآزق. فالصابر دائماً فائزٌ، في الدنيا والآخرة؛ في الدنيا يصل إلى أهدافه ويقضي حاجاته؛ وفي الآخرة يحصل على رضوان ربِّه. وقد قال الشاعرُ في هذا المعنى:

ورُبَما نِيلَ باصْطِبارٍ

 

ما قيل: هيهات، لا يكونُ

والصبرُ مفتاحُ ما يُرجَّى

 

وكلُّ صَعْبٍ به يهونُ

أنواع الصبر

والصبرُ ـ أيُّها الأحِبَّة ـ أنواع: صبرٌ على الطاعة؛ وصبرٌ عن المعصية؛ وصبرٌ على البلاء، وصبرٌ على الأذى؛ وصبرٌ مع الفقراء والمساكين من المؤمنين.

1ـ أمّا الصبرُ على الطاعة فهو أن تربِّي نفسَك على تحمُّل مشقّة طاعة الله. فالطاعة ليست أمراً سهلاً على الإطلاق؛ فإنّها تتعارض في كثيرٍ من الأحيان مع أهواء الإنسان ومصالحه. فعندما تؤمَر بالاستيقاظ لصلاة الصبح مثلاً يعني ذلك أنّك تؤمر بعملٍ شاقّ مخالف لرغباتك في الخلود إلى النوم. وهنا يأتي دور الصبر، هل تنهض فتكون من الصابرين أو تبقى في فراشك، ولا سيَّما في الأيّام الباردة، فتكون ممَّنْ ضيَّع الفروض، ولم يصبر عليها؟

وكذا هو الصبر على تعلُّم أحكام الله. فكثيرٌ من الناس لا يصبرون على هذا؛ لجفافه، وعدم ملاءمته لطبع الإنسان ومَيْله إلى السهل البسيط، والإنسان عدوُّ ما يجهل. وهذا ما برز بوضوحٍ في قصّة موسى والخضر(عما)، حيث لفت انتباه موسى(ع) إلى هذا الأمر فقال: ﴿وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً﴾ (الكهف: 68). فهو يتعجَّب من ادِّعاء النبيّ موسى(ع) للصبر على ذلك. وبالفعل سقط موسى(ع) في الامتحان، ولم يصبر على التعلُّم، وهو نبيٌّ معصوم (وما لم يصبِرْ عليه ليس واجباً، فلا يتنافى عدم الصبر مع العصمة).

2ـ وأمّا الصبر عن المعصية فأن تقاوم رغبات نفسك التي تغريك باقتحام المعاصي والشبهات، أن تقاوم الشيطان في ما يدعوك إليه من مخالفة أوامر ربِّك. فإذا لم تصبر عن هذه في الدنيا فهل تستطيع الصبر على نار جهنَّم وعذابها. اللهُ يستهزئ بهؤلاء، حيث يقول: ﴿فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾ (فصّلت: 24)، وفي آيةٍ أخرى يؤكِّد أنّ صبْرَهم كعدمه، فيقول: ﴿اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ﴾ (الطور: 16).

3ـ وأمّا الصبر على البلاء فإنّ على الإنسان أن يعرف أنّ هذه الدنيا دار بلاءٍ وامتحان، وليست دار راحةٍ وسكون وطمأنينة. والمؤمنون فيها أكثر الناس بلاءً، بعد الأنبياء والأوصياء. فإذا لم يتحلَّ الإنسان بالصبر على ما يحلّ به من المكاره والصعوبات والمشاقّ فإنّه سوف يسقط أمامها، ليخسر دينه شيئاً فشيئاً، وليخسر سعادته المحدودة قليلاً قليلاً. وهذا يجعل حياته من أتعس ما يكون في الدنيا والآخرة. فأيُّ عاقلٍ يمكنه بعد هذا أن يترك لنفسه العنان في التعامل مع المكاره والابتلاءات؟! أيُّ عاقلٍ يسمح لنفسه أن تقوم بما يجعله يعيش الخسران في الدنيا والآخرة؟! يعني يخسر كلَّ شيءٍ، فلا دنيا كسب، ولا آخرة ربح.

4ـ وأمّا الصبر على الأذى فلا نعني به الصبر على المُنْكَر؛ فالنهي عن المُنْكَر واجبٌ، ولا يجوز لأحدٍ أن يسكت عنه؛ بحجّة الصبر. نعم، الصبر على الأذى يكون عند إيذائك والإساءة إليك كشخصٍ، هنا الصبر خيرٌ. أمّا حين يكون الأمر إيذاءً للمجتمع، للناس كلِّهم، لمصالح الناس العامّة، لحرِّيتهم، لاقتصادهم، لسياستهم، هنا لا بُدَّ من التصدّي والمواجهة بالمقدور عليه من وسائل التصدّي والمواجهة.

5ـ وأمّا الصبر مع المساكين والفقراء المؤمنين فأن لا تتكبَّر عليهم، ولا تنظر ليهم نظرة السيِّد إلى مواليه، بل عليك أن تنظر إليهم مهما كنتَ غنيّاً أو وجيهاً نظرة الأخ إلى أخيه. وعلاقة الأخوّة هذه أمتن وأقوى من علاقة الأخوّة النسبيّة؛ فإنّ الله جمعكما هنا، وجمعكما الأبوان هناك.

أهل البيت(عم) قدوةٌ للصابرين

وهكذا كان أئمّة أهل البيت(عم) يعاملون مَنْ حولهم ويختلطون بهم من الفقراء والمساكين، وهذا ما كان يعرفه فيهم أصحابُهم.

نعم، أهل البيت(عم) كانوا مع الفقراء والمساكين بأجسادهم وأرواحهم، فقد واسَوْا الفقراء والمساكين في ملابسهم ومآكلهم ومساكنهم. وها نحن نسمع أمير المؤمنين عليّاً(ع) يقول: «ولو شئتُ لاهتدَيْتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ. ولكنْ هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي، إلى تخيُّر الأطعمة. ولعلّ بالحجاز أو اليمامة مَنْ لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع. أَوَأبيتُ مبطاناً وحولي بطونٌ غَرْثى وأكبادٌ حرّى؟!… أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش»([2]).

فهل نهتدي بهَدْيهم، ونقتفي أثرهم؟ نسأل الله أن يوفِّقنا لنكون من شيعتهم حقّاً، أن يوفِّقنا لنَصْبِرَ أنْفُسَنا مع الذين يَدْعون ربَّهم بالغَداة والعَشِيّ يريدون وَجْهَه، لنصبر في البأساء والضرّاء وحين البأس. وآخرُ دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

**********

الهوامش

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نهج البلاغة 4: 18؛ ورواه الصدوق في الخصال: 315، عن الحسن بن محمد السكوني، عن محمد بن عبد الله الحضرمي، عن سعيد بن عمرو الأشعثي، عن سفيان بن عيينة، عن السري، عن الشعبي، عن عليٍّ(ع): «…واعلموا أن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد ولا خير في جسد لا رأس له».

([2]) نهج البلاغة 3: 71 ـ 72.



أكتب تعليقك