حوارٌ حول الحجّ (الوجوب، الزمان، المناسك، والمحرَّمات)
حوارٌ خاصّ مع الأخ العزيز، الأستاذ رياض الشيخ باقر بوخمسين
(باحثٌ إسلاميّ، مهتمٌّ بتحقيق الوقائع التاريخيّة والطروحات العلميّة والثقافيّة المعاصرة)
العزيز جناب الشيخ محمد دهيني، اسمح لي بعد أن استمعت لخطبتكم عن الحجّ أن أسألكم عمّا ورد في كلمتكم هذه:
سؤال1ـ الله يقول في سورة الحج: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾، وقال في سورة التوبة: ﴿وَأَذَانٌ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ…﴾، فهل الناس هم مَنْ ربُّهم الله، كما قال في سورة الناس: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾، أم الناس هم المسلمون وغيرهم ليسوا بناس فليس مشمولاً في الأذان بالحجّ؟! واذا كان كذلك فالواجب أن يقول: وأذن في المسلمين!
الجواب1: ليس من الضروريّ أن تكون الكلمةُ الواحدة قد استعملت في نفس المعنى في موردين أو أكثر، فللفظ معنى أو أكثر أصلي (حقيقي) ومعانٍ أخرى مجازية، وقد يُستعمل في بعض تلك المعاني مع قرينةٍ تدلّ على ذلك وفق المقرَّر في علم البلاغة…
ومع ذلك أعتقد أنه لا محذور في أن يكون لفظ الناس قد استُعمل في هذه الآيات التي ذكرتموها بمعنى واحد، وهو مَنْ ربُّهم الله، الأعمّ من أن يكونوا مسلمين أو مشركين أو كفّاراً، وعليه تكون هذه الآية من الأدلّة على أن الكفّار مكلَّفون بالفروع (كالصلاة والصوم والحجّ…) وإنْ لم تُقبَل منهم لعدم تحقُّق قصد القربة، فهم لم يتوجَّهوا بالعمل إلى الله ربّ العالمين، فكيف يسألونه الجزاء والثواب يوم القيامة؟!
سؤال2ـ الآية في سورة البقرة تقول: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾، وقال في سورة التوبة: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾، فلماذا اقتصر وقت الحجّ من أربعة أشهر حرم إلى أيام معدودة معينة من شهر واحد؟!
الجواب2: يبقى زمن الحجّ أشهراً معلومات، وهي ثلاثة: شوّال وذو القعدة وذو الحجّة، وهو ما دلَّت عليه الروايات، فيصحّ لمن أراد الحجّ (حجّ التمتُّع) أن يعتمر عمرة التمتُّع ولو في اليوم الأوّل من شوّال ثم يمكث في مكّة إلى التاسع من ذي الحجّة فيحرم للحجّ ويقف بعرفات…إلخ، ويكون حجّه هذا صحيحاً. ويظهر الفرق في أنه لو اعتمر في شهر رمضان ثمّ أراد الحجّ فلا يمكنه اعتبار تلك العمرة عمرة تمتُّع، وإنما عليه أن يخرج من مكة إلى ميقاتٍ ويحرم منه لعمرة جديدة تكون هي عمرة التمتُّع ويليها حجّ التمتُّع.
سؤال3ـ ذكر التحليق والتقصير عند الدخول إلى المسجد، ولا ذكر لذلك ولا تطبيق، وعمل بالتحليق في الآخر كذلك على أيّ أساس فهم أن التحليق والتقصير هو في شعر الرأس وليس في شيء آخر؟
الجواب3: مقصودكم الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ﴾، وهي تتحدَّث عن الدخول إلى مكة بعد أداء مناسك الوقوف بعرفات والمزدلفة والقيام بأعمال منى (الرجم والذبح والحلق أو التقصير)، ففي حجّ الإفراد والقران (وهذان النوعان من الحجّ هما المعروفان للمسلمين يومذاك، وتشريع التمتُّع حصل في الحجّة الأخيرة للنبيّ(ص)) يدخل الحاجّ محرماً إلى مكّة للطواف والسعي، ويمكنه تأخيرهما إلى ما بعد الوقوفين وأعمال يوم الأضحى في منى، كما يمكنه أن لا يدخل مكّة أصلاً قبل الوقوف بعرفات، وعليه سيكون دخوله إلى مكّة بعد الحلق أو التقصير في منى، وهذا ما ذكرَتْه الآية إذ المقصود من المسجد الحرام مكّة، وليس خصوص المسجد، وهو استعمالٌ قرآنيّ معروف.
وأما حصر التقصير بشعر الرأس فلقوله: ﴿مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾، وهي واضحةٌ في الدلالة على ذلك، إذ ليس في الرأس ما يمكن حلقه أو تقصيره إلاّ الشعر، وهو المتبادر من مثل هذه العبارة. مع الإشارة إلى أن هناك رأياً فقهياً يجيز الاكتفاء بتقليم الأظافر للتحلُّل من الإحرام.
سؤال4ـ لماذا ذكر «لا جناح» في قوله: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾؟
الجواب4: هي هنا لنفي الحَظْر الموهوم الذي كان في ذهن كثير من المسلمين؛ حيث إنه في الجاهلية كان على الصفا والمروة صنمان، وكان الحجّاج يستلمونهما، وقد أزالهما رسول الله(ص) عند فتح مكّة، ولكنْ بقي المسلمون يتحرَّجون من السعي بين الجبلين (الصفا والمروة)؛ لما كان عليهما سابقاً، فنزلت الآية تنفي أيّ إشكالٍ في ذلك.
سؤال5ـ حرم صيد البرّ (الأنعام من ذوي اللحوم الحمراء) حتّى تلك التي تحت اليد، وأحلّ صيد البحر، أي لا يحلّ لنا ذبحها ولا أكلها طوال الأشهر الأربعة الحُرُم، فعلى ماذا تمّ ذبحها كمنسكٍ يحلّ به المحرم عن إحرامه؟
الجواب5: إنما حُرِّم الصيد، وهو خاصٌّ بالحيوان غير الأهلي (أي الممتنع الذي لا يمكن إمساكه إلاّ بالصيد والرمي)، وليس حراماً ذبحُ الحيوان الأهليّ كالدجاج والغنم والبقر والإبل، وليس حراماً أكلُها، حتّى في الأشهر الحُرُم، وحتّى في البلد الحرام، وحتّى في حالة الإحرام. ولا فرق بين الحيوانات ذات اللحم الأحمر أو اللحم الأبيض. كما أن حُرْمة الصيد ليست طوال الأشهر الأربعة، وإنما هي خاصّة بالمُحْرِم، وفي الحَرَم، وأما خارج الحرم فيجوز للمُحِلّ أن يصطاد ما يشاء من صيد البرّ أو البحر.
وعليه ينتفي الاستغراب لتشريع الذبح في منى، علماً أنه ليس هو ما يحلّ به المُحْرِم من إحرامه، وإنما يحلّ بالحلق أو التقصير، وهو يكون بعد الذبح أو النحر.
ولو كان ما ذكرتموه صحيحاً فإن تشريع الذبح في منى لا يكون مستغرباً؛ إذ سيكون حينها استثناءً وتخصيصاً، ويمكن الاستفادة من اللحوم بعد فترةٍ من الزمن، كما لو جُفِّفَتْ (القديد).
سؤال6ـ هنا يجب أن نسأل: ما الفرق بين الهَدْي والفدو؟ ولماذا تمّ التعامل بالهدي في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾؟ فما استيسر من الهدي! في حين أن الفَدْو شيءٌ آخر: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾.
الجواب6: الهدي ما لم يكن بَدَلاً عن شيء، وإنما هو هديّة وقربانٌ يتقدَّم به صاحبه، وأما الفَدْو فهو ما يكون بدلاً عن شيء، ففَدْو إسماعيل بَدَل نفسه، والفدية بَدَلٌ عن فائتٍ من الأعمال، فمَنْ لم يستطع الحلق لمرضٍ أو أذىً فإن الواجب عليه بَدَل ذلك الصيام أو الصدقة أو النسك…
سؤال7ـ جاء القرآن بكل مشاعر الحجّ (سواء اتفقنا على تفسيرها أم اختلفنا)، لكنه لم يأتِ بذكر رمي الجمرات لا من قريب ولا من بعيد، فمن أين أخذت؟ ولماذا أُضيفت الى مشاعر الحجّ؟
الجواب7: كثيرةٌ هي الأحكام والتفاصيل التي ليس لها وجودٌ في القرآن، وإنما نعلم بها من الأحاديث والروايات الصحيحة الموثوق بصدورها، وهي واجبةُ الاتِّباع: ﴿وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾.
سؤال8ـ من أين جاءت حرمة لبس المخيط في الحجّ؟
الجواب8: من الأحاديث والروايات الصحيحة الموثوق بصدورها، وهي واجبةُ الاتِّباع، كما أسلَفْنا.
سؤال9ـ شدّد في الآية 196 من سورة البقرة (ذُكرَتْ أعلاه) على أن لا تحلق الرؤوس إلاّ بعد أن يصل الهدي (ليس الفدو) إلى محلّه، ولم يأتِ بذكر التقصير على الإطلاق، لماذا والتقصير يعمل به؟
الجواب9: القرآن يشهد بعضُه لبعضٍ، فهنا تحدَّث عن الحلق، ولكنّه في آيةٍ أخرى تحدَّث عن (محلِّقين ومقصِّرين)، ما يعني أن الحلق ليس هو المتعيِّن على الدوام، فللتقصير حظٌّ من الحضور في الحكم الشرعيّ، فالصرورة (مَنْ كان يحجّ للمرّة الأولى) يحلق وغيره يقصِّر، والرجل يحلق والمرأة تقصِّر…
سؤال10ـ الخطاب بالتحليق والتقصير عامّ للحجيج، فلماذا تمّ التفريق بين الذكر والأنثى، وكذلك التفريق بين الحاجّ أول مرة وبين مَنْ له حجّة سابقة؟
الجواب10: تقدَّم أن هذا هو المستفاد من ذكر (محلِّقين ومقصِّرين)، مضافاً إلى دلالة الروايات على ذلك.
سؤال11ـ لم تأتِ آيات الحج على ذكر هاجر، والمشهور أن التطواف (السعي) بين الصفا والمروة يعود لها، كذلك المشهور أنها دفنت ما بين الكعبة وحجر إسماعيل، واكتفت الآية ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾.
الجواب11: هاجر وما جرى لها إنما هو قصّةٌ تاريخية، وليس القرآن كتاباً قصصياً، وإنما يذكر من القصص ومشاهدها ما يتوخّى منه الاعتبار والعِظَة. ولم يكن من داعٍ لذكر هاجر وما جرى معها؛ فهو لا يرتبط بما يريد اللهُ بيانَه؛ فهو في صدد بيان ما قام به إبراهيم وإسماعيل في ذاك الزمن من تحضيرٍ وتهيئةٍ لإقامة مناسك الحجّ، وهو أمرٌ لا تتولاّه النساء، وإنما هو مهمّة الرجال، فذُكر إبراهيم وإسماعيل فقط، دون الأمّ هاجر. وأما ما يتعلَّق بهاجر وما فعلَتْه من اكتشاف زمزم والسعي بين الصفا والمروة فليس من الضروريّ لتشريع السعي ذكر أصله ومنشئه، وإنما يُكتفى بذكر الحكم الشرعيّ، وهو أن السعي بينهما واجبٌ في العمرة والحجّ.
سؤال12ـ قال تعالى في سورة الحجّ: ﴿ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ﴾. هل كان التطواف بالبيت العتيق عندما كان شكله مستطيلاً ومتّجهاً الي الشمال وحجمه أكبر حيث كان الحجر الإسماعيلي داخله، كما هو الحال بالطواف حول الكعبة بحجمها ووضع الحجر الحالي؟
الجواب12: نعم، هو هو، غاية الأمر أن دائرة الطواف تتّسع كلّما زاد حجم المربّع أو المستطيل، ولكنّ أصل الطواف (الدوران وعدد الأشواط وسائر الشروط المعتبرة فيه) هو نفسه لا يتغيَّر.
أكتفي بهذه التساؤلات لجنابكم فقد طال الحديث، ولكم مني جزيل الشكر في الإجابة عن كلّ ما ورد.