الولاء لعليٍّ عليه السلام سلوكٌ وموقف
كلمةٌ بمناسبة ولادة الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السلام،
أُلقيت في المعهد الشرعي الإسلامي في حارة حريك، بتاريخ: 23 ـ 05 ـ 2013م
التسجيل الصوتي للمحاضرة:
2013-05-23-كلمة الولاء سلوك وموقف، ألقيت في المعهد الشرعي بمناسبة مولد الإمام علي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا محمّد، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وأصحابه المنتَجَبين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
جُمِعَتْ في صِفاتِكَ الأضدادُ |
فلِهذا عزَّتْ لكَ الأندادُ |
|
زاهدٌ حاكمٌ حليمٌ شجاعٌ |
ناسكٌ فاتكٌ فقيرٌ جوادُ |
ونلتقيه مجدَّداً في يوم مَوْلِدِه، وهو الحاضرُ بيننا دَوْماً لا يغيب.
هو الحاضرُ في عُمْقِ وِجْدانِنا البشريِّ والإنسانيِّ، عالِماً زاهِداً عادِلاً، محِقّاً، لا يطلُبُ النصرَ بالجَوْر. ولنا إلى كُلِّ هذه الصفاتِ عودةٌ في ما يأتي.
نلتقيه وليداً في بيتِ الله الحرام، أشرفِ وأطهرِ وأقدسِ بقعةٍ على وجه الأرض. لم يسبِقْه ولم يلحَقْه أحدٌ. ويشهد لذلك التاريخ، فلا نحتاج إلى شِقٍّ في جدارٍ يؤكِّد الحقيقة. فإنْ لم يوجَدْ لم تكُنْ. وكثيرون ممَّنْ أَمُّوا البيتَ لم يجِدُوه، والبيتُ قد هُدِم لمرّاتٍ.
هو وليدُ البيت، وشهيدُ المحراب، وفي ما بينهما عبدٌ مطيعٌ لخالقه، وكفاه بذلك عزّاً.
لم يُشرِكْ بالله طَرْفةَ عَيْن، ولم يسجُدْ لصَنَمٍ قطّ، فكان إمامَ الموحِّدين، بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم.
أحبَّ الله حُبّاً صادقاً فأطاعه، والمُحِبُّ لمَنْ يُحِبُّ مطيعُ، فأحبَّه اللهُ، وقرَّبه إليه، وفرض محبَّته على المؤمنين، فلا يحبُّه إلاّ مؤمنٌ، ولا يبغضه إلاّ منافقٌ.
هو الأعلمُ والأكفأ، ولا تكون الخلافةُ لغيرهما. وليس يفضل عليّاً من البشر إلاّ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم، الذي أحبَّ عليّاً منذ طفولته، لا حُبَّ القرابة، بل حبُّ الرسالة، يرفعُ له في كلِّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً، ويأمرُه بالاقتداء به، ويفعلُ عليٌّ ما يؤمَر.
ولهذا أيُّها الأحبّة نتولاّهُ دون سِواه.
نعرِّفه فارساً شجاعاً، وبطلاً مِغْواراً، يقلع باب خيبر بيدٍ واحدة، ويضرب مَرْحَباً فيفلقَه نصفَيْن، ولكنْ مَنْ يلتفتُ إلى مصدر قوَّته وشجاعته، وهو الإيمان والثقة بالله، لا بغيره، وهو القائل: ما قلعتُ باب خيبر بقوّةٍ جسديّة، بل بقوّةٍ ربّانيّة؟
هو المحِقُّ في كلِّ أحواله، لازَمَ الحقَّ فلازَمَه، فكان مع الحقِّ في كلِّ مواقعه، وكان الحقُّ معه في كلِّ مواقفه، ويدورُ مع الحقّ حيثما دار. والحقُّ مُكْلِفٌ أيُّها الأحبّة، حتّى قال عليه السلام: ما ترك لي الحقُّ من صديقٍ.
هو الزاهدُ في هذه الدنيا الفانية، فلا تغريه مباهجُها ولذائذُها، حتّى قام في محرابه ذات يومٍ، وهو يقول: يا دنيا، إليكِ عَنِّي ، أَبِي تعرَّضْتِ ، أَمْ إليَّ تشوَّقْتِ. لا حانَ حينُكْ. هيهات، غُرِّي غيري. لا حاجة لي فيكِ. قد طلَّقْتُكِ ثلاثاً لا رَجْعةَ فيها. فعيشُكِ قصيرٌ، وخطرُكِ يسيرٌ، وأَمَلُكِ حقيرٌ. آهٍ مِنْ قلّةِ الزاد، وطولِ الطريق، وبُعْدِ السفر، وعظيمِ المورِد.
هو العابدُ، الذي لم يستهِنْ بفريضةٍ قَطّ، بل حافَظَ على المسنون من العبادات، حتَّى لقد وقف ليلةَ الهرير، وهي أشدُّ ليلةٍ في حرب صِفِّين، وقف بين الصفَّيْن ليصلِّي وِرْدَه، فقال له ابنُ عبّاس: وهل هذا وقت الصلاة؟ إنّ عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة، فقال عليه السلام: عَلامَ نقاتلُهم؟ إنّما نقاتلُهم على الصلاة. ثُمّ تُطالعنا بعض المَروِيّات الضعيفة بأنّه فوَّت صلاةَ العَصْر حتّى غَرُبَتْ الشمسُ، فردَّها اللهُ له.
هو الحاكمُ العادل، الذي لم يجعَلْ لنفسه مِيزةً على غيره، بل يجوعُ إذا جاعوا، ولسانُه يردِّد: ولعلَّ بالحِجاز أو اليمامة مَنْ لا طَمَعَ له في القُرْص، ولا عَهْدَ له بالشَّبَع ، أَوَأَبيتُ مِبْطاناً وحولي بُطونٌ غَرْثى، وأكبادٌ حَرّى؟ أَأَقنَعُ من نفسي بأنْ يُقالَ: أميرُ المؤمنين، ولا أشاركُهم في مكارهِ الدَّهْر، أو أكونُ أسوةً لهم في جُشوبة العيش.
ويأتيه أخوه عقيلٌ، يطالبه بزيادةٍ في المؤنة عمّا يعطي بقيّة الناس، فما الذي حصل؟ يروي لنا عليٌّ بنفسه تفاصيلَ القِصّة: واللهِ، لقد رأيتُ عقيلاً وقد أَمْلَقَ، حتَّى استماحَني مِنْ بِرُّكُم صاعاً، ورأيتُ صِبْيانه شُعْثَ الشعور، غُبْر الألوان، مِنْ فَقْرِهِم، كأنَّما سُوِّدَتْ وجوهُهُم بالعِظْلَم، وعاودني مؤكِّداً، وكرَّر عليَّ القولَ مردِّداً، فأصغيتُ إليه سمعي، فظَنَّ أنّي أبيعُه ديني، وأتَّبع قيادَه مفارِقاً طريقي، فأحميتُ له حديدةً، ثم أدنيتُها مِنْ جسمِه؛ ليعتبرَ بها، فضجَّ ضجيجَ ذي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِها، وكاد أن يحترِقَ من مَيْسَمِها، فقلتُ له: ثَكَلَتْكَ الثواكلُ يا عقيل، أَتَئِنُّ مِنْ حديدةٍ أَحْماها إنسانُها لِلَعِبِه، وتجُرُّني إلى نارٍ سجَّرَها جبَّارُها لغضبِه. أَتَئِنُّ من الأذى، ولا أَئِنُّ من لظى.
هو العالمُ، الذي لم يتبجَّح على أحدٍ بعِلْمِه، ولم يخْزِنْه لنفسِه، وإنّما كان يبحث عن حَمَلةٍ مؤتَمَنين، ليودِعَ عندهم عِلْماً جَمّاً، عِلْماً نافعاً في الدِّين والدنيا، حيث يقول: أيُّها الناس، سَلوني قبل أنْ تفقِدوني، فلأنا بطُرُق السماء (أي بتعاليم الله، وهي الطريق إلى الجنّة) أعلمُ منّي بطُرُق الأرض (أي ما يحتاجه الناس فيها لتيسير أمورهم).
أيّها الأحبّة تستوقفنا في حياة عليّ محطّاتٌ كثيرة، ولكنّي في هذه العجالة أقف عند محطّتين اثنتين:
1ـ هو أمير المؤمنين وإمام المتَّقين، فما هي دلالة هاتين الصفتين؟
إنّهما تعنيان أنْ ليس المهمُّ أن نحبَّ نحنُ عليّاً ونهتفَ باسمِه، وندَّعي أنّنا شيعتُه، بل المهمُّ أن يبادلَنا عليٌّ هذا الحبَّ، ويقبلَنا شيعةً وموالين، ويكونَ أميراً وإماماً لنا. ومن الواضح من هاتين الصفتين أنّه أميرٌ للمؤمنين، وإمامٌ للمتَّقين، وأمّا مَنْ لم يكُنْ في عداد المؤمنين، ولم يكتبْ اسمَه في سجلِّ المتَّقين، فليس لعليٍّ علاقةٌ به على الإطلاق.
وهذا يدفعنا للعملِ الجادّ لإحراز صفة (المؤمنين)، وصفة (المتَّقين)؛ كي نحقِّق هدفَنا وغايتَنا في ما نرفعُه من شعارات، ونأملُه من فوزٍ ونجاة.
2ـ لقد سلبوا عليّاً عليه السلام الخلافة الفعليّة بعد رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم. والخلافةُ عند عليٍّ ليست كرسيّاً يعشقُه، كما هي حالُ كثيرٍ من الحكّام، وإنّما هي مسؤوليّة عن الخلقِ (عباد الله) ومصالحِهم. إذاً هي تكليفٌ ومسؤوليّة. وعندما غصبوها منه وقف أمام خيارَيْن:
إمّا أنْ يقاتِل القومَ وتكونَ الفتنةُ، ويكونَ الفسادُ في أمور المسلمين.
وإمّا أن يقفَ موقف المؤمن المسؤول، متعالياً على الجراح، مترفِّعاً عن صغائر الأحداث. يقف لينصر الذين آذَوْه، وحاربُوه، وأبعدُوه؛ لأنّ في نصرتِه لهم، ووقوفِه إلى جانبهم، ومدِّ يد العون إليهم، نجاةَ المسلمين، وسلامةَ أمور دينهم ودنياهم.
فاختار عليه السلام مدَّ اليد، والمعونة، وهو يقول: لأُسالِمَنَّ ما سلمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يَكُنْ بها جورٌ إلاّ عليَّ خاصّة.
وأمّا عندما بلغ الانحراف مداه، وتعرَّضت مصالح المسلمين للخطر، فقد خرج شاهراً سيفه، مقاتِلاً الناكثين والقاسطين والمارقين، ولم تأخُذْه في الله لومةُ لائمٍ.
أيُّها الأحِبّة، هذا هو عليٌّ أميرُ المؤمنين، وإمامُ المتَّقين، العالمُ والعابدُ والزاهدُ والعادلُ، هذا هو عليٌّ وما أدراكَ ما عليّ؟!
ولعليٍّ وصيّتُه لِكُلِّ مَنْ أرادَ أن يتَّخِذَه إماماً وقائداً، وهادياً ومرشِداً، وأيُّ عاقلٍ لا يرغب في ذلك: أَلا وإنَّ لكُلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستَضِيء بنورِ علمِه. أَلا وإنَّ إمامَكم قد اكتفى مِنْ دُنياه بطِمْرَيْه، ومِنْ طِعْمِه بقُرْصَيْه. أَلا وإنَّكم لا تقدِرون على ذلك، وَلكِنْ أعينوني بوَرَعٍ واجتهاد، وعفّةٍ وسداد.
أيّها الأحبّة، ليس الولاءُ كلماتٍ نردِّدُها، وشعاراتٍ نرفعُها، إنَّه عقيدةٌ في جِنان، وقولٌ بلسانٍ، وعملٌ بالأركان، إنّه سُلوكٌ وموقِف.
ونبقى نردِّد مع الشاعر المسيحيِّ كلامَ حقٍّ قالَهُ:
يا أميرَ الإسلام حَسْبِيَ فَخْرٌ |
أنَّني مِنْكَ مالئٌ أصْغَرَيَّا |
|
جَلْجَلَ الحقُّ في المسيحيِّ حتّى |
عُدَّ من فَرْطِ حُبِّه عَلَوِيّا |
|
أنا مَنْ يعشقُ البطولةَ والإلهامَ |
والعَدْلَ والخِلاقَ الرَّضيّا |
|
فإذا لم يكُنْ عليٌّ نبيّاً |
فلقد كان خُلْقُه نَبَوِيّا |
|
هو خَيْرُِ الأنامِ مِنْ بعد طه |
ما رَأى الكونُ مثلَه آدَمِيّا |
|
يا سماءُ اشْهَدِي ويا أرضُ قَرِّي |
واخْشَعي إنَّني ذَكَرْتُ عَلِيّا |
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.