3 يوليو 2013
التصنيف : مقالات قرآنية
لا تعليقات
3٬153 مشاهدة

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، نداءٌ أوّلٌ وأخيرٌ

1 11 111

في ذكرى المبعث النبويّ الشريف نتذكَّره نبيّاً للرحمة، ورسولاً للهدى،

رحمةٌ نفتقدها اليوم بين المسلمين، وهم يقتتلون ويتناحرون،

وهدىً أضاعوه في حمأة صراع طائفيّ ومذهبيّ بغيض.

وإذ نتقدَّم من البشريّة جمعاء، والمسلمين خصوصاً، بأسمى آيات التبريك نسأل الله العليّ القدير أن يكشف هذه الغمّة عن هذه الأمّة، وأن يصلح ما فسد من أمور المسلمين، وأن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنّه سميع مجيب.

(7 ـ 6 ـ 2013م)

من إفادات الشيخ الأستاذ الدكتور وليّ الله نقي پور فر

البسملة جزءٌ من كلّ سورةٍ قرآنيّة

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾.

نزلت هذه الآيات التسعة ـ مع البسملة ـ عند بعثة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وهذا ما يعني أنّ البسملة جزءٌ من هذه السورة القرآنيّة، خِلافاً لما يقول به بعض العلماء، من أنّ البسملة ليست جزءاً من السورة.

والدليلُ على جُزئيّتها في هذه السورة أنّ هذه الآيات هي أوّل آيات القرآن نزولاً، فلا بُدَّ من سبقها بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾. وجميعُ الكتب السماويّة قد بدأت بالبسملة، فلماذا لا يَبدأ بها القرآن الكريم أيضاً؟!

هذا مضافاً إلى الدليل على كون البسملة جزءاً من كلِّ سورةٍ قرآنيّةٍ ـ ما عدا سورة التوبة ـ، وهو أقوى الأدلّة، وهو قيام السيرة المتواترة على بَدْء جميع السور القرآنيّة بالبسملة. فالقرآن على ترتيبٍ واحدٍ عند جميع المسلمين، وكُلُّ سورةٍ فيه تبدأ بـ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، فلو لم تكن البسملة جزءاً من السور القرآنيّة لحاول بعض المسلمين حذف هذه الزيادات. وهذا ما لم يحصل، الأمر الذي يعني أنّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل البسملة جزءاً من كلِّ سورةٍِ قرآنيةٍ، ورتَّبَه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وِفْق ذلك، وتناقل المسلمون هذا الترتيبَ النبويَّ عبر الأجيال بطريقٍ متواترٍ لا يتطرَّق إليه الشكّ.

بعض آثار القول بجزئيّة البسملة

ويترتَّب على اعتبارِ البسملة جزءاً وعدمِه جملةٌ من الأحكام الفقهيّة، منها:

1ـ إنْ قلنا بالجزئيّة وجب ـ قبل الإتيان البسملة ـ تعيينُ السورة المراد قراءتُها بعد الحمد في الصلاة؛ لأنّ البسملة جزءٌ من كلِّ سورةٍ، فلا بُدَّ من قراءتها بنيّة الجزئيّة من سورةٍ معيَّنةٍ بخصوصها.

وإنْ قلنا بعدم الجزئيّة لا يجب ذلك، وإنّما يمكن الإتيان بالبسملة، ثُمَّ تعيين السورة المراد قراءتها بعد ذلك، بل يمكن عدم الإتيان بالبسملة من الأساس، كما يفعل أهل السنّة، وتكون البسملة ذِكْراً مطلقاً؛ إنْ لم يأتِ به فلا شيء عليه؛ وإنْ أتى به لم تبطُلْ صلاتُه.

2ـ إنْ قلنا بكونها جزءاً من السورة، وقلنا أنّه يحرم على الحائض قراءة تمام السور التي فيها آيات سجودٍ واجبٍ، لا آية السجدة منها فقط ـ ولا نقول بذلك، ودليلُنا جُملةٌ من الأمور لا نتعرَّض لها هنا اختصاراً ـ فحينئذٍ يحرم عليها قراءة البسملة من أوّل سور (السجدة)، و(فُصِّلَت)، و(النَّجْم)، و(العَلَق).

وإنْ قلنا بعدم جزئيّتها فلا يحرم عليها قراءة البسملة في أوائل تلك السور؛ إذ البسملة ليست جزءاً من تلك السور، فلا يحرم عليها قراءتُها.

﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *… * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾، ما هو متعلَّق القراءة؟

ذهب المشهور إلى أنّ متعلَّقَ ﴿اقْرَأْ﴾ ـ الأولى القرآنُ الكريم وكلامُ الله، و﴿اقْرَأْ﴾ ـ الثانية تأكيدٌ للأولى؛ أو أمرٌ بالقراءة للناس، مقابل كون القراءة الأولى للنَّفْس.

ولكنّ هذا الكلامَ مردودٌ؛ فالقرآنُ نزل على قلب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ﴾ (الشعراء: 193 ـ 194)، ولا علاقة للسمع والبصر والذهن بذلك.

فالقراءةُ شهودِيّةٌ، والمكتوبُ شهودِيٌّ.

وعليه فـ ﴿اقْرَأْ﴾ ـ الأولى تتعلَّق بمكتوبٍ شهودِيٍّ، وهو كتابُ الخِلْقة والتكوين، كتابُ الآفاق والأنفس؛ بقرينة قوله تعالى: ﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.

وهذا الكتاب فيه جهةُ مِلْك؛ وجهةُ مَلَكوت. والمطلوب مطالعة ملكوت الآفاق والأنفس، وملكوتُ السماوات والأرض يُفسِّره قولُه تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ (الإسراء: 44).

ومن خلال التأمُّل في ملكوت السماء والأرض والأنفس وَصَل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى ما هو عليه من السَّيْر والسلوك. وقولُ الله فعلُه، فبمجرَّد هذا الأمر شرع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في السَّيْر والسلوك تِلقائيّاً.

﴿بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، ما هو الاسم؟

ذهب البعض إلى أنّ «اسم» كلمةٌ زائدةٌ، والمعنى: اقرأ بربِّك، أي مستعيناً بربِّك. وتلك مغالطةٌ.

والصحيحُ أنّ «اسم» بمعنى صفة: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الأعراف: 180)، أي الصفات الحسنى. والمرادُ من الآية هو الاستعانة بصفةٍ خاصّةٍ من صفات الله تعالى، وهي صفة «الكريم»، فالضعيفُ يستعين بـ (القويّ العزيز)، والمحتاجُ يلجأ إلى (الكريم)، وهو الخالق عزَّ وجلَّ؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ… ﴾ (الانفطار: 6 ـ 7). وأمّا الأكرم فهو المعلِّم؛ إذ العلم أعلى رتبةً من الخَلْق؛ لقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ﴾ (الرحمن: 1 ـ 3).

وممّا تقدَّم عرفنا أنّ لكتاب الخِلْقة قسمَيْن: الأنفس؛ والآفاق. وهذا ما يعني أنّ الإنسان مهمٌّ إلى درجة مقابلته لكلِّ المخلوقات الأخرى. وبهذا يشبه سورة الحمد؛ فإنّها في طرفٍ، وباقي القرآن في طرفٍ: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ (الحجر: 87). وعليه فكُلُّ المخلوقات في خدمة البشر للوصول إلى الكمال.

﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾

نظرت الآية إلى مرحلة العَلَق، وهي المرحلة الثانية والوسطى لخَلْق الإنسان، ولم تنظر إلى مرحلة النطفة والماء المَهين.

وفي التعبير بـ ﴿عَلَق﴾ إشارةٌ إلى بعض الغرائز الإنسانيّة، كحُبِّه لإنشاء العلاقات. ومن هنا يظهر ما في العازِف عن الزواج، والمعرِض عنه، من النقص وتعطُّل الغريزة الطبيعيّة.

﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾

وأمّا ﴿اقْرَأْ﴾ الثانية، أي في قوله تعالى: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ﴾، فتتعلَّق بكتاب التشريع؛ بقرينة قوله تعالى: ﴿الذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾. وقد طالَع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جميعَ كتب التشريع، منذ آدم عليه السلام إلى عيسى عليه السلام. وإليه يُشير قوله تعالى: ﴿قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف: 9).

﴿الذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾

المراد بالقلم هنا هو القلمُ الخاصّ، وهو قلمُ الهداية، قلمُ التشريع.

﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾

الاحتمالاتُ في قوله ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ ثلاثةٌ، وهي:

1ـ ما لم يعلمْه سابقاً، ولكنْ يمكن أن يعلمَه لاحقاً.

2ـ ما لم يعلمْه سابقاً، ولا يمكنه أن يعلمَه لاحقاً.

3ـ ما لم يعلمْه سابقاً، ولكنْ يمكن أن يعلمَ بعضَه لاحقاً.

والأوّلُ من هذه الاحتمالات يعني أنّ عقل الإنسان يحصل له الرُّشْد، فيعلم ما لم يكن يعلمه. ولكنّ بعضَ الآيات، وفلسفةَ الأحكام ـ ولاسيَّما في العبادات ـ، لا يمكن العلم بها. فهذا الاحتمالُ الأوّلُ باطلٌ.

والثاني من هذه الاحتمالات ينفيه القرآن؛ فإنّه ذكر بعضَ الأحكام التي يمكن أن يعلمها الإنسان لوحده فيما بعد، كحُرمة الخمر؛ لضَرَره.

وعليه فالمناسبُ لشأن القرآن هو الاحتمال الثالث؛ فإنّ بعضَ ما لم يعلمْه الإنسان سابقاً يمكن أن يعلمَه لاحقاً بلا تعليمٍ من الله، ولكنّ البعضَ الآخر لا يمكن العلم به إلاّ بتعليم الله عزَّ وجلَّ.

إذاً فالقرآنُ يحتوي مجموعةً من المباحث العقليّة التي يمكن للعقل الوصول إليها لوحده، ومجموعةً من المباحث فوق العقليّة التي لا يمكن للإنسان الوصول إليها إلاّ بتعليم الله.

وهنا قد يُقال: لماذا ذُكرت في القرآن بعضُ المباحث العقليّة التي يمكن للإنسان وحدَه الوصول إليها؟

والجواب: إنّ هذه المباحث تكتسب قوّةً، بل العقل يكتسب قوّةً إذا ذُكرَتْ مباحثُه في القرآن. فالعقل يُغلَب إذا لم يُقرَن بالدِّين، فينهزم أمام النفس. وهذا ما تدُلُّ عليه سورة العصر: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾.

أسباب ذكر القرآن الكريم لمباحث عقليّة

فمع إعطاءِ القرآن الكريم أهمّيّةً كبيرةً للعقل ـ بحيث اعتَبَر عَدَم التعقُّل أُمَّ الذنوب، فذكره مفرَداً (ذنب)، لا (ذنوب)، في قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ (الملك: 10 ـ 11)، ومعناه لو كنّا نقبل بعد التعقُّل بواسطة العُقَلاء، أو نقبل بعد التعقُّل بلا واسطةٍ، ما كنّا في أصحاب السعير… ـ فمع إعطاءِ القرآن الكريم أهمّيّةً كبيرةً للعقل ذكر بعضَ المباحث العقليّة؛ وذلك لعدّةِ أسباب، منها:

1ـ الضمانة الإجرائيّة لتحكيم موقعيّة العقل في نفس الإنسان.

2ـ الدعوة للتوبة في صورة تخلُّف العقل، والتحذير من العواقب الوخيمة للمعصية في الدنيا والآخرة.

3ـ منع العقل من السقوط في خدمة هوى النَّفْس، من جهة تكرار المعصية.

القرآن الكريم يذكر مباحث فوق عقليّة

هذا وقد ذكر القرآن الكريم مباحث فوق عقليّة، وتتلخَّص في:

1ـ معرفة الإنسان الجامعة: فالعقل من دون الوحي وصل إلى أنّ الإنسان حيوانٌ مقهورٌ بالوراثة والمجتمع. والحقُّ أنّ الإنسان قادرٌ، بإقدار الله له، على بلوغ أسمى مراتب الكمال الإنسانيّ، متخلِّياً عن الموروثات والعادات والتقاليد الاجتماعيّة.

2ـ معرفة قِمّة الكمال الإنسانيّ: فالعقل يرى الإنسان من النطفة إلى القبر. وهذا رُشْدٌ مادِّيٌ. وأمّا الرُّشْد المعنويّ فلا يعلمه العقل، يقول تعالى: ﴿فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ﴾ (البلد: 11)، أي للوصول إلى القِمّة.

وهذه القِمّة هي مقام خليفة الله، وهو مقام الولاية التكوينيّة المطلَقة الثابتة للأنبياء والأولياء، على تفاضُلٍ بينهم: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ (البقرة: 253)، فأكملُها عند الأربعة عشر معصوماً عليهم السلام، ثمّ عند أنبياء أولي العَزْم عليهم السلام، ثمَّ عند بقيّة الأنبياء عليهم السلام.

3ـ معرفة طريق الوصول إلى قِمّة الكمال: فالعقل لا يعرف هذا الطريق، والدّينُ باعتقاداته وأحكامه هو الذي يوصِل الإنسان إلى كماله.

4ـ معرفة ضرورة وجود المرشِد الإلهيّ من الأنبياء والأولياء والأئمّة عليهم السلام: والعقل لا يعرف هذه الضرورة، فإنّ العقل لا يعرف محدوديّة إدراكه، فيظنّ أنّه يعرف الذي ينبغي فعلُه والذي لا ينبغي فعلُه، والحقُّ أنّه لا بُدَّ للعقل من سؤال الوحي عن الذي ينبغي عليه فعله.

بيانُ ذلك: أبعادُ وجود الإنسان قسمان:

1ـ دنيويّ، وهو قسمان أيضاً:

أـ جسميّ: الطعام، اللباس، المسكن….

ب ـ روحيّ: الأمن، العاطفة، الجنس….

2ـ أخرويّ معنويّ، وهو قسمان أيضاً:

أـ معرفتيّ (فكريّ).

ب ـ إيمانيّ (قلبيّ).

أمّا الأخرويّ فلا نقاش في أنّ عقل الإنسان لا يدركه ولا يعرفه.

وأمّا الدنيويّ الجسميّ فقد أثبتت التجربة أنّ العقل لا يعرف ما يؤكَل وما لا يؤكَل، ولا يعرف النافع من الضارّ، وإنْ كان يحكم بضرورة أكل النافع من الأطعمة واجتناب المُضِرّ منها؛ ولذلك تراهم قد أَكَلوا الكلاب والقطط والدم، معتقدين أن لا فرق بينها وبين الشاة والبقرة والحليب، فانتشرت بينهم الأمراض والأوبئة، كمرض «السارس»، الذي قيل: إنّه ناجمٌ عن أكل القطط.

ولا يعرف العقل أيضاً اللباسَ المناسِب للرجل، واللباسَ المناسب للمرأة. فقد يحكم العقل ـ كما حكم فعلاً في أوروبا وأمريكا ـ بأنّ الأصل هو العُرْي للرجل والمرأة على السواء؛ إذ لماذا يُستَر الجمال، واللهُ أحسَنَ كلَّ شيءٍ خَلَقَه.

وهذا يعني جهل العقل بما هو صالح الإنسان؛ إذ هو لا يدرك حقيقة الإنسان، فكيف يعرف الصالح له؟!، بل قد ينجرف مع هوى النفس، فيقول بما لا يتناسب مع بعض الأمور الواضحة لديه. فإنّ خصائصَ المرأة، وجاذبيّتَها الزائدة والمؤثِّرة، ممّا لا يمكن للعقل إنكارُه، وإلاّ لما استعملوها في الدعايات، ومع ذلك ترى العقل يحكم لدى البعض بأنّ المرأة كالرجل، في جواز التعرّي وكشف المحاسن.

وأمّا الدنيويّ الروحيّ، ولا سيَّما الجنسيّ، فلا يعرف العقل كيف تُرفَع الحاجة الجنسيّة بشكلٍ سليمٍ وصحيحٍ، ومن هنا كان شيوع زواج المِثلَيْن، والزواج مع الحيوانات، فنتج عنه الإيدز، وما شابه من الأمراض القاتلة.

إذاً العلوم الإنسانيّة كُلُّها تحتاج إلى الدِّين ليضبط مسار حركتها، والعقل يحتاج إلى الدِّين لمساعدتِه في الوصول إلى النتائج السليمة والصحيحة، وحمايتِه من الوقوع في تأثير هوى النفس.

﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾

الآية تردَع الإنسان عن الاعتقاد بأنّ الوَحْي لا علاقة له بالتشريع وتنظيم أمور الدنيا؛ فإنّ بعض الناس ينكرون خالقيّة الله وربوبيّته، وهم المُلحِدون؛ وبعضٌ آخر ينكرون ربوبيّة الله، مع اعتقادهم بخالقيّته، وهم المشركون. والله في هذه الآية يردع الإنسان عن إنكار ربوبيّة الله، فضلاً عن خالقيّته.

فالطغيانُ في الآية بمعنى الاكتفاء بالعقل، ونفي ضرورة الوَحْي في التشريع. وهذا ما يؤدّي بالإنسان إلى الخسارة: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ… ﴾ (العصر: 2 ـ 3).

وسببُ هذا الطغيان هو تخيُّل الإنسان أنّه مستغنٍ عن الله ووَحْيه، في حين أنّه مفتَقِرٌ إليه في كلِّ شيءٍ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ (فاطر: 15).

وهذا التخيُّل ليس ناتجاً عن فكرٍ وتدقيقٍ وتحقيقٍ، وإنّما هو مَرَضٌ روحيٌّ أخلاقيٌّ، نابعٌ من الانقياد لهوى النفس الأمّارة بالسوء: ﴿بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ * يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ﴾ (القيامة: 5 ـ 6)، ﴿أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ (إبراهيم: 10)، ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ (البقرة: 10). فالصورةُ صورة إنسانٍ، والقلبُ قلب حيوانٍ.

﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾

هي دعوةٌ إلهيّة للإنسان الطاغي ليتذكَّر أنّ رجوعه يوماً ما إلى الله، وأنّه سيموت ويرجع إلى ربِّه، فيحاسبه على ما فَعَل.

وهذا التذكُّر من أكثر الأشياء تأثيراً في كبح جماح الطاغي؛ فإنّ الموت شيءٌ لا يمكن إنكارُه؛ لأنّه يَمْثُل أمام ناظرَيْ الإنسان بين فترةٍ وأخرى، فكُلَّما ودَّع حبيباً أو قريباً يشعر موقِناً بأنّه سائرٌ على هذا الطريق الذي سينتهي به يوماً إلى الموت.

وقدرةُ الله تتجلَّى بأَبْهى صُوَرها في الموت: «يا مَنْ في الممات قدرتُه، يا مَنْ في القبور عبرتُه» (الكفعمي، جنة الأمان الواقية وجنة الإيمان الباقية، المشتهر بـ (المصباح): 252، دعاء الجوشن الكبير).

ومَنْ كان عندهم مَرَضٌ روحيٌّ لا ينفع معهم إلاّ التخويف بالموت؛ فإنّه بمثابة الصدمة الكهربائيّة التي تعيد للخلايا الميِّتة حياتها وحركتها، وهو يعود بالإنسان إلى رشده وتعقُّله.



أكتب تعليقك