أمثال/ح11: الذين يَدْعون من دون الله… ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ﴾
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، والسلام عليكم ـ أيُّها الأحبَّة ـ ورحمة الله وبركاته.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(الحجّ: 73 ـ 74).
إنّه لعَجَبٌ عُجاب ما يقوم به بعضُ الناس من عبادة غير الله، وتقديسه، واللجوء إليه في المُهمّات والشدائد، يتوسَّلون ويستشفعون به من غير دليلٍ أو برهانٍ على أنّ الله عزَّ وجلَّ قد آتاه مقام الشفاعة، وأَذِن له في أن يكون واسطةً في الرَّحْمة أو العَفْو أو المغفرة.
هكذا كان ديدنُ أهل الجاهليّة، يتَّخذون لأنفسهم أصناماً وأوثاناً، من حجارةٍ أو خشب أو حديد أو طعام، ويعبدونها من دون الله، ويقدِّمون إليها القرابين، ويركعون بين يدَيْها، ويخشَوْنها كأشدِّ ما تكون خشيةٌ.
وبعضُ الناس يتَّخذ من المخلوقين أمثالِه أصناماً وأوثاناً بشريّة، فيتَّبعهم من دون تفكيرٍ، ويلتزم أوامرَهم من دون تدبُّرٍ، ويرفعهم شيئاً فشيئاً ليصل بهم إلى مقام الآلهة أو قاب قوسَيْن من ذلك.
ويهزأ اللهُ بهؤلاء جميعاً، وفعلهم هذا، ويريد أن يبيِّن لهم ضَعْف هذه الأوثان ـ الحَجَريّة منها والبَشَريّة ـ، فضرب لهم مَثَلاً في غاية الرَّوعة والوضوح، وبيان حقيقة ضَعْف هذا الإنسان، فضلاً عمّا سواه من الجمادات.
فقال: يا بني آدم، سنضرب لكم مَثَلاً جديراً بأن تستمعوا له، وتتفكَّروا فيه، فإنّ فيه الحقَّ والحقيقة كلَّها.
إنّ الذين تدعون من دون الله، بشراً أو أصناماً، هم عاجزون عن أبسط الأمور. هم عاجزون عن أن يخلقوا كائناً صغيراً في حَجْم الذُّباب، فلا يقدرون على إيجاد شيءٍ من العَدَم. ولا زالوا إلى يومنا هذا لا يستطيع أكابر العلماء والمكتشفين إيجاد شيءٍ من العَدَم، وإنَّما قد يوجدون كثيراً من الأشياء، ولكنْ بالاستفادة من موادّ موجودةٍ ومخلوقة، واللهُ هو الذي خلقها.
وقد يقولون: ليس لهؤلاء مقام الخالقيّة، وإنَّما لهم مقام التدبير، وإدارة شؤون الكون.
وسُرْعان ما يأتيهم الجواب الإلهيّ الحاسم: إنّ هؤلاء أضعف وأعجز من أن يستردّوا من الذباب ما يسلبهم إيّاه، هم عاجزون عن خَلْقه وإيجاده، رغم صِغَر حجمه، وضَعْف بُنْيته، ومع ذلك هم عاجزون عن حماية أنفسهم من سَطْوته وغارته، فلو سلبهم بعضَ طعامهم أو شرابهم فلا يستطيعون استنقاذ ذلك منه. فأيُّ ضعفٍ وأيُّ وهنٍ أنتَ فيه يا ابنَ آدم؟!
وقد ورد في الروايات أنّ الوثنيّين من قريش نَصَبوا أوثانهم حول الكعبة، وأغرقوها بالمِسْك والعَنْبر، وأحياناً بالزَّعْفَران والعَسَل، وطافوا حولها، وهم يردِّدون: «لبَّيْك اللهمَُّ لبَّيْك، لبَّيْك لا شريك لك، إلاّ شريكاً هو لك، تملكه وما ملك». والبُعْد عن التوحيد واضحٌ في هذه التلبية، والشِّرْك مؤكَّدٌ فيها، فقد جعلوا هذه الموجودات التافهة شركاءَ لله الواحد الأحد، وهم يرَوْن الذباب يحوم عليها، ويسرق منها العَسَل والزَّعْفَران والمِسْك، دون أن تستطيع إعادةَ ما سُلب منها!!!
أيُّها المتكبِّر المتجبِّر، الشامخُ بأنفه، الثاني لعِطْفه، لقد خُلقتَ ضعيفاً، وستبقى مخلوقاً ضعيفاً، محتاجاً إلى الله جلَّ وعلا في كلِّ شؤونك. فاعرِفْ قَدْرَك، واعرِفْ قَدْرَ خالقك، وحقَّه عليك، وواجبَك تجاهه، وليكُنْ تصرُّفك على هذا الأساس.
ومن لطيف ما يُروى حول خَلْق الذُّباب أنّ المنصور العباسيّ قال يوماً لمولانا أبي عبد الله الصادق(ع)، وقد وقع على المنصور ذبابٌ، فذبَّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبَّه عنه، ثمّ وقع عليه فذبَّه عنه، فقال: يا أبا عبد الله، لأيِّ شيءٍ خلق الله تعالى الذباب؟ قال: «ليذلّ به الجبّارين»[1].
ويُروى عن النبيّ(ص) أنّه قال: «إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فإنّ في أحد جناحيه داءً»[2].
ولا بُدَّ من التوقُّف مليّاً أمام هذه الروايات، التي تتعارض مع ما أثبته العلم الحديث من أنّ الذباب ـ بجميع أجزائه ـ يحمل الكثير من الميكروبات الضارّة، فينبغي أن يُجتَنَب ما يلاقيه، لأنّه ضارٌّ مؤذٍ، وكلُّ ذلك حرامٌ.
اللهُمَّ، اجعَلْنا من المتواضعين لخلقِكَ، وجنِّبنا الكِبْرَ والفَخْر والزَّهْو والخُيَلاء، فإنّها أسُّ كلِّ بلاء. والحمد لله ربِّ العالمين.
**********
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه الصدوق في علل الشرائع 2: 496، عن محمد بن عليّ ماجيلويه، عن عمّه محمد بن أبي القاسم، عن أحمد بن أبي عبد الله البرقي، عن أبيه، عمَّنْ ذكره، عن الربيع صاحب المنصور….
[2] رواه الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق: 152، معلَّقاً مرفوعاً: إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فليغمسه؛ فإنّ في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءٌ، وإنّه يغمس بجناحه الذي فيه الداء، فليغمسه كلَّه ثمّ لينزعه.
ورواه أحمد بن حنبل في مسنده 2: 229 ـ 230، عن بشر بن مفضل، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله(ص): إذا وقع الذُّباب في إناء أحدكم فإنّ في أحد جناحيه داءً، وفي الآخر شفاءٌ، وإنّه يتقى بجناحيه الذي فيه الداء، فليغمسه كلَّه. ورواه كثيراً بأسانيد مختلفة. وكذلك رواه البخاري ـ بلفظٍ مشابه ـ في الصحيح 4: 100.